محمود رياض.. وزير خارجية المعارك الكبرى

بقلم: عمرو صابح
في تاريخ الأمم هناك جنود يلبسون البزّة العسكرية، وجنود يلبسون البزّة الدبلوماسية، وكلاهما يقاتل على جبهة واحدة. من بين هؤلاء برز اسم محمود رياض كأحد أمهر وأصلب فرسان الدبلوماسية المصرية والعربية، رجلٌ لم يرفع صوته يومًا، لكنه بصبرٍ وبرود أعصاب وحزم صاغ مواقف غيّرت خرائط المنطقة.
لم يكن صانع خطب ولا لاعب كواليس، بل محاربًا في ساحة السياسة الخارجية، نذر حياته ليكون صوت مصر والعرب في الخارج.
بدأ محمود رياض مساره من المؤسسة العسكرية؛ فتخرّج في الكلية الحربية عام 1936، وخدم في عدة مواقع، أبرزها مديرًا للمخابرات الحربية في غزة عام 1948 أثناء الحرب. بعد النكبة شارك عضوًا في وفد مفاوضات رودس عام 1949، ثم رأس الوفد المصري في لجنة الهدنة المشتركة المصرية – الإسرائيلية حتى 1952. ومع قيام ثورة يوليو أُسندت إليه إدارة ملف فلسطين بالقيادة العامة، ثم عُيّن مديرًا للإدارة العربية بوزارة الخارجية عام 1954.
انتقل بعدها إلى العمل الدبلوماسي سفيرًا لمصر في دمشق عام 1955، وكان من الموقّعين على اتفاق الوحدة مع سوريا عام 1958، ثم مستشارًا سياسيًا لعبد الناصر حتى 1962، ومندوبًا دائمًا لمصر في الأمم المتحدة في العام نفسه. هذه الرحلة المتدرجة صقلت خبراته لتضعه على خط المواجهة المباشر مع القوى الكبرى.
في 16 أكتوبر 1964 تولّى وزارة الخارجية خلفًا لمحمود فوزي، ليبدأ ثمانية أعوام كاملة من أصعب سنوات السياسة العربية. قاد معارك دبلوماسية في الأمم المتحدة بعد نكسة يونيو 1967، وكان أحد مهندسي القرار 242، ومدافعًا عن الحقوق الفلسطينية والعربية بلا كلل. كما قاد الجانب الرسمي من سياسة مصر الأفريقية: بناء العلاقات مع الحكومات، والانخراط في منظمة الوحدة الأفريقية، والزيارات المتكررة لعواصم التحرر. وفي المقابل، كان هناك جناح موازٍ يقوده محمد فايق، المسؤول عن الملف الأفريقي بتكليف مباشر من عبد الناصر، يمدّ حركات التحرر بالسلاح والتدريب والإذاعات الثورية. هكذا اكتمل الدوران: رياض على منابر الأمم والمؤتمرات، وفايق على خطوط النار السرية، وكلاهما ينفّذ سياسة عبد الناصر في جعل القاهرة قبلة أفريقيا الثائرة.
بعد خروجه من الخارجية، اختير أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية عام 1972. وفي هذا الموقع لعب دورًا محوريًا أثناء حرب أكتوبر 1973، من تنسيق المواقف العربية إلى دعم معركة النفط. لكنه وجد نفسه لاحقًا في مواجهة الانقسام العربي بعد اتجاه السادات نحو السلام المنفرد مع العدو. رفض أن يكون شاهد زور، فاستقال عام 1979 بعدما نُقل مقر الجامعة إلى تونس.
ومن أبرز معاركه دفاعه عن منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. تصدّى لمحاولات تهميشها، وأصرّ على انتزاع اعتراف الأمم المتحدة بها عام 1974.
كان مقتنعًا بأن أي مساس بالتمثيل الفلسطيني هو تمهيد لتصفية القضية.
وفي مذكراته قدّم شهادة حادّة على انحراف أنور السادات عن المصالح المصرية العليا والخط القومي العربي.
اعتبر أن السلام المنفرد كان عزلة لمصر، وانهيارًا للصف العربي، وخيانة لروح الإجماع الذي قاتل من أجله منذ اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 حتى نهاية حرب 6 أكتوبر 1973. لذلك فضّل الانسحاب بكرامة على أن يكون جزءًا من هذا المسار.
مذكراته ليست مجرد سيرة شخصية، بل سجلّ حيّ لمرحلة من أصعب المراحل: منذ هزيمة 1948، إلى انتصارات أكتوبر، وصولًا إلى الانقسام العربي بسبب سياسات السادات. قيمتها أنها مكتوبة بلغة هادئة بلا مبالغات، لتقدّم وثيقة صادقة لفهم العقل العربي في معاركه الدبلوماسية.
كان محمود رياض آخر جيل من الدبلوماسيين الذين رأوا في الخارجية ساحة قتال حقيقية، لا مكاتب بروتوكول. كان صوت مصر، ثم صوت العرب، حتى انسحب رافضًا أن يشارك في تفكك الأمة. ترك وراءه مذكرات هي شهادة أمانة، واسمًا سيبقى حاضرًا كلما ذُكرت معارك السياسة العربية الكبرى.