المد الناصري وتأثيره على السلطة والسياسة في ليبيا

المد الناصري وتأثيره على السلطة والسياسة في ليبيا

بقلم/ رياض العكر 

بالرغم من استقلالها المبكر الذي أعلنه الملك الراحل أدريس السنوسي في ٢٤ ديسمبر ١٩٥١ لم يكن لليبيا تأثير بارز على السياسة العربية و الاقليمية في الشرق الاوسط و عموم أفريقيا على الرغم من كونها دولة ذات موقع جغرافي مميز يفرض لها تأثير مهم إذا ما أراد المتحكمون في سياستها ممارسة هذا الدور الذي لا شك انها سيسهم بشكل جلي في ضمان وتحقيق مصالح هذه الدولة التي سبقت في استقلالها الكثير من الدول في المنطقة والعالم، خاصة في خمسينات القرن الماضي و هي الفترة التي كانت العالم فيها يخوض في مرحلة رسم التحالفات الجديدة بعد سقوط معسكر الحلفاء و انقسام معسكر دول المحور على نفسه نتيجة لاختلاف الايديولوجيات الاقتصادية والسياسية لأقطابه ، كل هذه الظروف لم يستغلها ساسة ليبيا ذلك الوقت وعلى رأسهم الملك الراحل إدريس السنوسي الذي تبنى سياسة صداقة الجميع و الابتعاد عن المشاكل التي من شأنها ان تضع ليبيا ضمن قائمة حلفاء أحد الفريقين ، و قد انظمت ليبيا فعلاً تعزيزاً لهذا الموقف إلي حركة عدم الانحياز سنة ١٩٦٤، و لكن لا يخفى على أي مطلع ميول النظام في ذلك الوقت إلي الصداقة والاقتراب من المعسكر الغربي الرأسمالي وعلى رأسه بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية ، فبالرغم من اعلان الاستقلال الا ان التأثير البريطاني على السياسة الليبية كان واضحاً جداً حتى في عملية تنصيب وعزل رؤساء الحكومة بحسب ما أفاد وزراء سابقون في عهد المملكة الليبية ، ومن اشارات القرب إلي المعسكر الغربي أيضاً ضعف الموقف الرسمي لليبيا تجاه القضايا ذات الاهتمام العربي المشترك و وجود قواعد عسكرية لكل من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية في ليبيا أهمها قاعدة "ويلس" الامريكية بطرابلس  وهي أكبر قاعدة للقوات الامريكية خارج أراضيها والتي تعرف اليوم بقاعدة معيتيقة وكذلك قاعدة الوطية غرب طرابلس بالاضافة الي القواعد الانجليزية المنتشرة في البلاد والتي كانت من بقايا فترة الوصاية الانجليزية على ليبيا قبل اعلان استقلالها ، كل هذه العوامل و الظروف كانت تثير عواطف ومشاعر سلبية في نفوس الليبيين؛ خاصة في ظل الاحداث المتسارعة و المثيرة التي كانت تمر بها المنطقة العربية آنذاك خاصة فيما يتعلق بالقضية الفسلطينة وكذلك أبان العدوان الثلاثي على مصر خصوصاً بعد انتشار شائعات غير مؤكدة حول استخدام هذه القواعد في العمليات العسكرية ضد مصر  و قد و صل الامر ذروته عندما حصلت النكسة عام ١٩٦٧ والتي باغث فيها جيش الاحتلال الصهيوني القوات المصرية و أصابها في مقتل شلها عن الحركة لاكثر من خمس سنوات، وكغيره من الشعوب العربية تأثر الشعب الليبي كثيراً بهذه الاحداث فنزل إلي الشارع مطالباً بإجلاء القوات الاجنبية عن ليبيا و دعم الجهود العربية المقاومة للاستعمار و النفوذ الاجنبي في الدول العربية ومحاولات اسقاط مشروع الوحدة العربية الذي كان ينادي به و يروج يسعى له الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يعشقه الليبييون والعرب آنذاك إذ كانوا يرونَ فيه المتحدث بأفكارهم و أمانيهم التي شتتها الاستعمار ، وقد نزل الليببون الي الشوارع في أكثر من مناسبة دعماً للرئيس عبد الناصر مطالبين الملك بدعمه و طرد القوات الاجنبية من ليبيا .

لم تكن القوات المسلحة الليبية في معزل عن هذه الظروف و التطورات والاحداث المتسارعة ، بل كان لها أثر عظيم على سير الأحداث داخل الثكنات العسكرية في ليبيا وعلى علاقة الجيش بالقصر و الحكومة التابعة له ، وبغض النظر عن ماهية الدوافع والأسباب التي حركتهم إلى ان عدد من ضباط القوات المسلحة قرروا التحرك لإسقاط النظام الملكي في ليبيا متأثرين في ذلك بالطريقة التي تبنّتها القوات المسلحة المصرية لإسقاط الملكية في مصر في يونيو ١٩٥٢ و قد حققوا ذلك فعلاً في ١٩٦٩ ، حيث تحركت آليات القوات المسلحة ليلة الفاتح من سبتمبر من العام ١٩٦٩ و سيطرت على أهم المؤسسات في الدولة و أبرزها الاذاعة الليبية في بنغازي و الذي أعلنوا منها قلب نظام الحكم و إسقاط الملكية وإعلان قيام الجمهورية العربية الليبية في بيان ألقاه الرئيس الراحل معمر القذافي و قد كان في السابعة والعشرون من عمره .

كل الاحداث التي وقعت بعد إسقاط الملكية تشير بما لا يدع مجالاً للشك ان حركة القوات المسلحة الليبية هذه تأثرت وبشكل كبير بأفكار و تصرفات الرئيس جمال عبد الناصر و بمشروعه الوحدوي ، فقد عمد قادة النظام الجديد إلي تبني نفس الألية التي تبناها الضباط المصريين الذين أسقطوا الملكية في مصر ، فقد أنشؤا مجلس قيادة الثورة وقد سموا أنفسهم الضباط الوحدويين الاحرار على غرار ما حصل في مصر ، كما ان القذافي كان قد أشار في بيانه الاول إلي ان من أهم أهداف هذه التحركات أو الثورة هي تحقيق الوحدة العربية وتصفية الاستعمار ، وقد انعكس هذا ايضاً على أبرز وأهم إنجاز لما بات يعرف بثورة الفاتح نسبة إلي يوم الفاتح من سبتمبر التي وقت فيه هذه الاحداث وهو إجلاء القواعد الاجنبية ، حيث عمد مجلس قيادة الثورة إلي الدخول في مفاوضات فورية مع كل من بريطانيا و الولايات المتحدة الامريكة بغرض اجلاء قواتهم عن ليبيا و تسليم قواعدها الي القوات المسلحة الليبية و هو ما حصل فعلاً في ٢٨ مارس ١٩٧٠ بالنسبة للقوات البريطانية اي بعد 7 أشهر من قيام الثورة و في  ١١ يونيو ١٩٧٠ بالنسبة للقوات الامريكية ، و هو ما يعكس بوضوح تأثير المد الثوري الوحدوي القومي الذي كان ينادي به الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان صديقاً قوياً وحليفاً استراتيجياً للنظام الليبي الجديد بقيادة الرئيس معمر القذافي آنذاك والذي قال عنه الرئيس عبد الناصر انه يشعر بأنه هو الامين على القومية العربية من بعده الامر الذي تأثر به القذافي كثيراً طيلة سنوات حكمه، حيث تبنى سياسة العداء للمستعمر الغربي القديم ودعم المقاومة وحركات التحرر في الكثير من دول العالم خاصة في أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ، وقد ظل القذافي وفياً لعبد الناصر و أفكاره حتى وفاته في ٢٠ أكتوبر من العام ٢٠١١ .