بقلم الأستاذ/ سعيد الشحات
تداولت وكالات أنباءٍ وصحفٍ عالمية وعربية، أنَّ لقاءًا متوقعًا قد يحدث فى ألمانيا بعيدًا عن الأنظار بين الدكتور هنرى كيسنجر، وكان وقتها مستشارًا للأمن القومى الأمريكي، والكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام، برعاية مستشار ألمانيا «فيلى برانت»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالله السناوى فى كتابه «أحاديث برقاش - هيكل بلا حواجز»، مؤكدًا: «زكى تلك المعلومات أن هيكل التقى فى ذلك الوقت بالمستشار الألمانى، وكان «كيسنجر» عنده قبلها بأيام».
أدى تداول القصة على هذا النحو إلى معركةٍ بين «هيكل» وآخرين تجاهل الكاتب الكبير ذكرهم فى مقال كتبه بعنوان «أنا وكيسنجر - مجموعة أوراق»، لكن مجريات الأحداث كانت تفصح عنهم بوضوح.. يذكر «السناوى» أن «برانت» سأل هيكل: «ماذا تريدون بالضبط؟..ثم سأل: «هل سوف تلتقى بهنرى كيسنجر؟، مشيرًا إلى أنَّ طريقة تفكيرهما متقاربة، وأجاب هيكل عن السؤال الأول بشرحٍ مسهب للوضع السياسى فى الشرق الأوسط، والسؤال الثانى أجاب عنه بالنفى القاطع «هذا ليس وقته».
يذكر «السناوى» أنَّ الطريقة المستقلة التى تصرَّف بها هيكل ضايقت الرئيس السادات، فقد اعتذر عن لقاء «كيسنجر» دون أن يُخطره بالدعوة، أو يتفاهم معه قبل اتخاذ أيّ موقف، وبأثر ذلك منح السادات فى الأيام الأخيرة من عام ١٩٧٢م، الضوء الأخضر لرئيس تحرير الأخبار موسى صبري، لكتابة مقال أراد أن يقول: «القلم الوحيد» يوشك على الأقول، وأنَّ العهد الجديد له رجالٌ جدد، ليس بينهم ذلك القلم الذى يُضفى على نفسه أهمية ليست له.
نشر «موسى صبرى» مقاله يوم جمعة، وهو نفس الموعد الذى يطل فيه هيكل على قارئه بمقاله الأسبوعى «بصراحة»، ووفقًا للسناوى: «كانت الاتهامات مرسلة، ويسهل تفنيدها، لكنه لم يقترب منها، غير أنَّ عبارة واحدة دعته للرد فى الجمعة التالية.. قالت العبارة التى استوقفته إنَّه «هيكل» «فوت خبرا على جريدة يمينية فى بيروت من أبواق الداعية له يقول إنَّه طائرٌ إلى ميونيخ لعقد اجتماع سرى مع كيسنجر مستشار الأمن القومى الأمريكي، وتنقل وكالات الأنباء الخبر الكبير، ويصدر كيسنجر تكذيبا رسميًا له».
يكتب هيكل رده العاصف بعنوان «أنا وكيسنجر - مجموعة أوراق» فى الأهرام، ٢٩ ديسمبر، مثل هذا اليوم، ١٩٧٢، ويُسند فيه كل حرف كتبه إلى وثائق ومراسلات وشهود.. يذكر «السناوى»: «بالمراسلات والشهود روى أن «دونالد كاندال» رئيس مجلس إدارة شركة «بيبسى كولا» والصديق الشخصي للرئيس الأمريكي «نيكسون» طلب أن يقابله حتى يسمع منه رؤيته لأزمة الشرق الأوسط، ووسَّط صديقهما المشترك المحامى الشهير «زكى هاشم» لإتمام هذه المقابلة.
كان تقدير «كاندال» أنَّ هناك أوجه تشابه بين «هيكل» و«كيسنجر» يفضل معه أن يلتقى الرجلان، ونقل تقديره إلى الرئيس الأمريكي، الذي التقى «هيكل» من قبل، فوافقه على ما توصَّل إليه، وكان كيسنجر نفسه شغوفًا بلقاء هيكل بتأثير ما قرأ له وما سمع من أنَّهما لهما نفس طريقة التفكير، وتوالت الرسائل الأمريكية تُلح على الفكرة، وتولى نقلها السفير أشرف غربال القائم بأعمال المصالح المصرية فى واشنطن، والدكتور محمد حسن الزيات رئيس الوفد المصرى بالأمم المتحدة، موجهة إلى الدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء ومنه إلى الرئيس السادات.
استشهد «هيكل» فى مقاله بكل أطراف القصة وجميعهم كانوا ما زالوا فى مناصبهم، ونشر نص الخطاب الذى أرسله «الزيات» إلى الدكتور محمود فوزي ومنه إلى السادات، واختتم مقاله قائلا: ليست لديَّ أحقادًا قديمة أو جديدة أتلوى بتقلصاتها، وليست هناك سلطة أضع نفسى تحت مظلتها، أو أرضى بذلك لنفسى أو لها، لم أشتم أحدًا، ولم أسق الكلام غامضًا وجزافًا، ولم أدَّعِ على الناس غير ما قالوه ثم أروح أناقشهم فيما ادعيته عليهم بصرف النظر عما قالوه، ولم أنسب للغائبين ما لم يجرِ على لسانهم، إنَّما رويت عن أحياءٍ أقوياءٍ ونسبت إليهم - بخط أيديهم وبألسنتهم - وفى استطاعة أيّ واحدٍ منهم أن يناقض ما رويت.. وفى النهاية فلقد وضعت نقطة واحدة على حرف.. والحروف كثيرة والنقط أكثر، وليس عن عجز إنما عن عفة.. «أقولها بغير تواضع وبغير ادعاء!»، ويقال لنا إنَّ بعض ما نقرأ اليوم من صيحات المعركة وضروراتها، وأتذكر كلمة الأديبة الفرنسية الشهيرة مدام دى ستايل، عندما كان حكم الثورة الفرنسية يتراجع إلى الخلط بين الحرية والإرهاب ماديًا أو معنويًا، وكانت كلمة مدام دى ستايل بالأسى كله: أيتها الحرية كم من الجرائم تُرتكب باسمك.. ولعلي أطورها بالمناسبة لكي تصبح أيتها المعركة كم من الجرائم ترتكب باسمك!!
يذكر السناوى، أن السادات غضب مما كتبه هيكل، وأبلغه أنَّ رقابةً ستُفرض على مقالاته، لكنَّه مانع بحسمٍ، واستأذن الرئيس فى رحلة سفر إلى شرق آسيا مع وفدٍ من كبار الصحفيين والباحثين فى الأهرام، وابتعد لفترةٍ طويلةٍ نسبيًا.