فيلم نابليون

فيلم نابليون

بقلم: عمرو صابح 

المخرج البريطاني ريدلي سكوت مولع منذ بداياته بالأعمال التاريخية الكبرى، فهو الذي قدّم فيلم المصارع عن روما الإمبراطورية، ومملكة السماء عن الحروب الصليبية، والمبارزة الأخيرة عن فرنسا في العصور الوسطى.

 في كل مرة يختار سكوت أن يفتح نافذة على التاريخ، لا يقدمه بوصفه وقائع جافة ، بل يقدمه كساحة صراع بين البشر، حيث تتقاطع الطموحات الفردية بالعاطفة بالقدر. من هنا جاء فيلمه نابليون، الذي حاول فيه أن يرسم بورتريه للإمبراطور الفرنسي، ليس من منظور السياسي والمشرّع، وإنما من منظور الرجل الأسير لشغفه بالسلطة وعلاقته المضطربة بجوزفين.

لكن عند تفكيك الفيلم تاريخيًا، سرعان ما نكتشف أن ريدلي سكوت لا ينشغل كثيرًا بالدقة بقدر ما يهتم بالدراما. فظهور نابليون في معركة تولون كضابط مدفعية شاب كان صحيحًا وأقرب للحقيقة، ومعركة أوسترليتز جاءت على الشاشة مذهلة بصريًا، وفيها استوحى سكوت بالفعل خدعة نابليون باستخدام التضاريس والجليد لإغراق قوات التحالف. حتى مشهد التتويج حين انتزع نابليون التاج من يد البابا يظل وفيًا للرمزية التاريخية.

لكن الخطايا التاريخية في الفيلم أكثر من أن تُغتفر؛ تصوير نابليون وهو يطلق المدافع على الأهرامات لا يمت للواقع بصلة، فمعركة الأهرام وقعت قرب إمبابة ضد المماليك، ولم يكن للأهرامات دور فيها. أما علاقته بجوزفين فقدّمها سكوت كأنها المحرك الأول لقرارات نابليون، بينما في الحقيقة كانت مجرد جانب إنساني مهم، لكنه لم يطغَ على عقلية القائد والمشرّع. ومعركة واترلو التي أنهت أسطورته جاءت في الفيلم مبسطة ومختزلة، بينما هي في الواقع من أعقد المعارك الأوروبية، تداخلت فيها عوامل الطقس والسياسة والتحالفات الدولية. والأهم أن سكوت أغفل تمامًا تأثير عائلته عليه، خاصة والدته القوية التي غرست فيه الانضباط والطموح، وإخوته الذين لعبوا أدوارًا محورية في حياته السياسية والعسكرية. غياب هذا البعد العائلي جعل نابليون يظهر كجندي وحيد لا سند له إلا جوزفين، وهو تبسيط شديد لشخصية تاريخية تشكّلت داخل شبكة أسرية معقدة.

 أداء خواكين فينيكس هو العمود الفقري للفيلم. فينيكس ممثل من العيار الثقيل، يجيد دائمًا الغوص في أعماق شخصياته، لكن في نابليون بدا وكأنه حبس الشخصية في قوالب جاهزة: ملامح متجهمة، انفعالات طفولية متكررة، غيرة مرضية على جوزفين. الأدهى أن مكياجه وهيئته ظلت على حالها تقريبًا من بداية الفيلم حتى نهايته؛ كأن نابليون لم يكبر يومًا ولم تُترك على وجهه آثار السنين والحروب والمنفى. هذا الجمود البصري جعل الشخصية تفقد شيئًا من مصداقيتها، وكأن الزمن توقف عند صورة واحدة له، بينما التاريخ يعرف نابليون في وجوه عدة: الشاب الطموح، الإمبراطور المتوّج، المنفي المنكسر. أما فانيسا كيربي فقدمت جوزفين بقدر كبير من الجاذبية والالتباس، فجعلت منها امرأة مترددة بين شغفها بزوجها وحرصها على إشباع ملذاتها. أداؤها أضفى على العلاقة بين الاثنين طابعًا مسمومًا، لكنه في الوقت نفسه كان صادقًا من حيث الإيحاء بأن جوزفين لم تكن مجرد زوجة عابرة، بل عقدة حقيقية في حياة نابليون. ومع ذلك، ظل تركيز سكوت على هذه العلاقة مبالغًا فيه، حتى صارت أحيانًا تطغى على المشاهد الحربية نفسها. والأغرب أن الفيلم لم يوضح سبب خيانة جوزفين لنابليون، رغم أنه أغدق عليها بالحب والمكانة والجاه، فاكتفى بعرض الخيانة كواقعة قدرية، لا كخيار إنساني له سياقه وأسبابه.

الصورة التي يرسمها الفيلم لنابليون هي صورة القائد العبقري في الحرب، المهووس بجوزفين والضعيف نفسيًا أمامها. أما صورة نابليون في التاريخ فهي أكثر عمقا؛ فهو صاحب قانون نابليون الذي ما زالت أوروبا تعمل به حتى اليوم، ومؤسس إداري بقدر ما كان جنرالًا عظيمًا. اختار ريدلي سكوت أن يضحي بهذه الجوانب ليصنع ملحمة بصرية صاخبة، لكنه بذلك قدّم نصف نابليون فقط، لا نابليون الكامل.

ريدلي سكوت انتصر للدراما على حساب الحقيقة، وأعطانا صورة ناقصة، لكنها مع ذلك آسرة.