في الأيام القليلة الماضية قضيت وقتاً طويلاً في استكشاف برنامج "ChatGPT"، والذي يصفه الإعلام والعموم تجاوزاً بالذكاء الاصطناعي، ويكتب عنه مصمموه في شركة "OpenAI" أنه "نموذج لغوي عملاق".
وفي حقيقة الأمر، أجد أن هذا البرنامج، وهو على الطريق للإصدار الرابع، سيكون بمثابة "لحظة غوتنبرغ" في زمن الإنترنت.
لحظة غوتنبرغ، لمن لا يعرف، هي تاريخ اختراع الألماني يوهانس غينزفلايش تسو لادن تسو غوتنبرع ماكينة الطباعة الأولى، والتي أحدثت نقلة غير مسبوقة في انتشار العلم والمعرفة حول العالم، وكان
لها أكبر إسهام في محو أمية جزء كبير من سكان الكوكب.
لماذا أولي هذا البرنامج كل تلك الأهمية؟
لأن "ChatGPT" يتوج سلسلة من برامج التعلم والذكاء الاصطناعي العام (General AI) التي حظيت بانتشار واسع، مثل برامج توليد الرسومات بالذكاء الاصطناعي (نايت كافيه أو دالي)، والتي غزت إبداعاتها الإنترنت، إضافة إلى السباق المحموم بين عملاقي التقنية "غوغل" و"مايكروسوفت" على إطلاق نسختيهما من الذكاء الاصطناعي القادر على التعلم الذاتي.
هذا التسارع في أبحاث واكتشافات التعلم الآلي (Machine learning) سيساهم في انفجار حقيقي للبحث العلمي، يقدره بعض الخبراء بآلاف المرات، وذلك بفضل القدرات الحسابية المهولة لتلك البرامج.
أيضاً، فإن هذه البرامج ستسهم بشكل ملحوظ في تحسين جودة حياة وكفاءة المواطن العادي والمتخصص. هناك الآلاف من البرمجيات والتطبيقات التي صممت عن طريق "ChatGPT" لتلخيص المقالات العلمية بشكل محترف، أو تدقيق اللغة البرمجية (الكود)، أو حتى للتذكير بالمواعيد والالتزامات، وصولاً إلى تقديم نصائح في مجال التغذية أو الدعم لمن يعانون من مشاكل نفسية وعاطفية.
حتى اللحظة، فإن "ChatGPT" تفوق على كل ما سبقه في سرعة الوصول إلى مليون مستخدم. موقع "فيسبوك"، مثلاً، احتاج إلى خمسة شهور للوصول إلى أول مليون مستخدم، و"نتفليكس" إلى ٤١ شهراً. أما "ChatGPT"، فقد كسر حاجز المليون مستخدم في اليوم الخامس من إطلاقه!!
لكن، مع كل تقنية جديدة هنالك جوانب مظلمة:
١. مثل مطبعة غوتنبرغ، التي قضت بالنهاية على مهنة ناسخي الكتب وعدد من المهن الرديفة لها، فإن قدرات "ChatGPT" المتعاظمة في مجال التنبؤ اللغوي ودقة الحساب قد تفضي إلى التخلي عن عدد كبير من ممتهني الوظائف الفكرية، مثل مبرمجي الكمبيوتر أو الصحفيين أو المترجمين أو موظفي مراكز الدعم الهاتفي (كول سنتر)، وصولاً إلى المعالجين النفسيين وحتى المحامين والمحاسبين!
في هذا الصدد، تعمل مؤسسة "Open AI"، التي صممت هذا البرنامج، منذ حوالي 4 سنوات على مشروع يرتبط بفكرة الدخل الأساسي العام (Universal Basic Salary)، وهي فكرة رائدة تمنح كل مواطن راتباً شهرياً محترماً بغض النظر عن كونه يعمل أم لا. هذه الفكرة طُبقت في عدد من الدول، مثل فنلندا، ولكنها واجهت عدة عقبات.
٢. يواجه نموذج "ChatGPT" أزمة أخلاقية تتمثل في عدم كون العلماء واثقين من درجة "الوعي" التي قد يصل إليها هذا البرنامج الذكي. هناك من يجادل بأن هذا البرنامج ينمو مثل الأطفال: فهم يبدأون حياتهم بتقليد الأصوات في محيطهم، ومن ثم الحروف، ومن ثم يدمجونها لتكوين كلمات، وبعدها يرتبون تلك الكلمات في تسلسل منطقي لتكوين جمل، وبهذه الطريقة ينمو لديهم "وعي" قادر على إدراك مختلف المواضيع وإبداء رأي محدد إزاءها.
هناك مخاوف من أن هذا النموذج اللغوي قد يصبح في لحظة ما "واعياً" ويبدأ في تكوين آراء خاصة به تختلف عن نوايا مبرمجيه، مما يضعه على خط مواجهة مباشر مع صانعيه من البشر. وبما أنه لا ينسى وقدراته الحسابية تتخطى البشر بسنوات ضوئية، فإن الغلبة في أي صراع فكري ستكون له!
٣. قد يؤدي الاتكال المفرط على الذكاء الاصطناعي ونماذج التعلم اللغوي إلى تماهي الخبرة وازدياد حالات تزييفها: إذ يكفي أن تغذي "ChatGPT" ببعض الكلمات المفتاحية والمعلومات الأساسية، وإجراء بعض التعديلات البسيطة الضابطة هنا وهناك، لإخراج مقال مفند مكتوب بأسلوب محترف للغاية، ويمتلك من السلاسة والترتيب المنمق ما يكفي لنشره في وسائل إعلامية رصينة، ويكاد يضاهي ما قد يكتبه خبير أفنى سنوات في دراسة الموضوع والاختصاص به (جربت ذلك في البرنامج، بإعطائه معلومات مبدئية حول استراتيجية حلف شمال الأطلسي في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وتحدي مواجهة تعاظم نفوذ الصين في المنطقة وتحجيمها من خلال الشراكات الإقليمية، والنتيجة كانت مقالاً مبهراً ومخيفاً في ذات الوقت).
من بين كل دول العالم، كانت الصين أول المبادرين إلى مواجهة هذه المد من الناتج الفكري الاصطناعي، إذ سنّت الحكومة الصينية قانوناً يفرض على أي عمل تم إنتاجه بالذكاء الاصطناعي أن يوسم بعلامة خاصة تدل على أصله، وذلك كي يسهل على المواطنين التفريق بين ما أنتجه العقل البشري الخام، والعقل البشري المعزز بقدرات الذكاء الاصطناعي الخارقة.
ما الذي يعنيه ذلك الآن؟
يقول اقتباس ألماني بما معناه "من يأتي متأخراً، ستعاقبه الحياة". أي أن من يرفض التكيف مع متغيرات العصر والزمان، سيبقى متخلفاً في ركب الحضارة وسيعض أصابع الندم. هذا ما لمسناه في العقود القليلة الماضية تارة وأخرى، سواء في اللحاق بركب الإصلاح الاقتصادي، أو التأخر في تطويع منظومة التعليم لتشجيع التخصصات التكنولوجية، وصولاً إلى تفويت فرص دخول عالم الإنترنت، سواء بشقه البنيوي (مثل مراكز البيانات العملاقة أو مزودات الإنترنت) أو البرمجي (الترويج لشركات التقنية الناشئة والبيئة المالية الإلكترونية "FinTech").
أعتقد أننا على المدى المتوسط سنعيش في عالم تهيمن عليه أنماط الذكاء الاصطناعي ونماذج التعلم اللغوي الذاتي العملاقة. أغلب ما سنراه ونقرأه ونسمعه لن يكون من إنتاج البشر بشكل كامل. وظائف قليلة تلك التي ستبقى مرتبطة بيد الإنسان، والتفاعل بين الناس سيكون تلبية لرغبات عاطفية أو نوستالجية ليس أكثر.
كلما أسرعنا في إدراك ذلك، كلما كنا أكثر انفتاحاً على تعلم التعامل مع برامج الذكاء الاصطناعي وتطويعها لحاجاتنا. تجربتي الفردية مع "ChatGPT" أدت - بكل تأكيد - إلى تطور اعتمادي عليه، ودمجه في حياتي اليومية، دون إهمال الحاجة إلى القراءة والعمل المستمر على شحذ ملكات العقل وجمع المعلومات كي لا تخفت هذه المهارة وتختفي، وأستعبد نفسي بنفسي لبرنامج إلكتروني (ولكن أليس أغلبنا عبداً لهاتفه الذكي؟؟)
هل سنكون من ناسخي الكتب الذين اعتبروا المطبعة "صرعة مستحدثة لن تستمر"، أم أننا سنبادر إلى تعلم رص الحروف في ماكينة غوتنبرغ الجديدة؟
وأخيراً، هل كتب "ChatGPT" هذا المنشور أم أنني أنتجته بقواي الذاتية؟
(حقوق الصورة: Open AI)
