محمود فوزي.. مهندس الدبلوماسية المصرية

بقلم: عمرو صابح
هناك رجالٌ لا يبحثون عن الأضواء، يعملون بهدوء وراء الكلمات المحكمة والقرارات الهادئة، لكن أثرهم يبقى محفورًا في تاريخ الوطن. محمود فوزي كان واحداً من هؤلاء. رجل هادئ الطباع، دقيق القول، قوي الحجة، استطاع أن يجعل من صمته صوتاً، ومن كلماته سلاحاً في الدفاع عن مصر على الساحة الدولية.
وُلد محمود فوزي في 19 سبتمبر 1900 بمحافظة المنوفية، ودرس القانون في جامعة القاهرة، ثم أكمل دراساته العليا في جامعات ليفربول وكولومبيا وروما، وحصل على الدكتوراه في القانون الدولي عام 1926. بدأت مسيرته الدبلوماسية في وزارة الخارجية المصرية، حيث عمل في عدة بعثات دبلوماسية، بما في ذلك القنصلية المصرية في نيويورك، والقنصلية المصرية في اليابان، ثم في القدس والأردن. في عام 1946، أصبح مندوب مصر لدى الأمم المتحدة، وفي 1949 مندوباً لدى مجلس الأمن، ثم سفيراً لمصر في المملكة المتحدة عام 1952.
مع قيام ثورة 23 يوليو، قام الزعيم جمال عبد الناصر بتعيينه وزيراً للخارجية في 9 ديسمبر 1952، وظل في المنصب حتى 24 مارس 1964. كانت سنواته في الوزارة مليئة بالتحديات: مفاوضات جلاء القوات البريطانية، مواجهة العدوان الثلاثي، دعم حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا، فضلاً عن تعزيز دور مصر في حركة عدم الانحياز. لم يكن فوزي خطيباً جماهيرياً، لكنه كان يمتلك قدرة فريدة على التعبير الدبلوماسي الهادئ والصياغة الدقيقة، مما جعله صوت مصر الرزين في المحافل الدولية، خصوصاً الأمم المتحدة.
بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر، ساهم محمود فوزي في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، وكان أحد الوجوه المصرية المشاركة في هذا المشروع القاري المهم.
ألف محمود فوزي كتابًا بعنوان "حرب السويس 1956"، يروي فيه تجربته الشخصية كوزير للخارجية أثناء العدوان الثلاثي على مصر، مسلطًا الضوء على الجهود الدبلوماسية التي بذلها في مواجهة التحديات الدولية.
نُشر الكتاب بعد وفاته في عام 1987، ليبقى مرجعًا مهمًا لفهم تلك الحقبة التاريخية من منظور دبلوماسي.
كانت علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر مبنية على الثقة والاحترام المتبادل.
عبد الناصر كان يستشيره في أهم الملفات الدولية قبل اتخاذ أي قرار كبير، معتمدًا على حكمته ودقة تقديره للمواقف. كما حافظ على صداقة قوية مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي وصفه في كتاباته مرات عديدة بأنه رجل "رصين، هادئ الطبع، دبلوماسي فذ، يجمع بين الحكمة والدقة في التعامل مع الملفات الدولية"، وأشاد بقدرة فوزي على تمثيل مصر بحرفية وهدوء في أصعب الظروف.
برز فوزي في مؤتمرات القمة الإفريقية والآسيوية، وفي الدفاع عن حق مصر في تأميم قناة السويس عام 1956، محققاً احتراماً واسعاً في المجتمع الدولي لقدرة مصر على الجمع بين القانون الدولي وروح التحرر الوطني.
بعد وفاة عبد الناصر، رآه الرئيس أنور السادات شخصية توافقية، فعينه رئيساً للوزراء في 21 أكتوبر 1970، واستمر حتى 16 يناير 1972، ثم أصبح نائب رئيس الجمهورية حتى 18 سبتمبر 1974، حيث أعلن اعتزاله العمل السياسي.
توفي محمود فوزي في 12 يونيو 1981، تاركاً إرثاً دبلوماسياً عظيماً. كان بحق "المهندس القانوني والسياسي" للسياسة الخارجية المصرية، مثالاً للرجل الذي يبني وطنه بالكلمة الموزونة والعمل الدؤوب، رمزاً للرزانة والرصانة، وواحداً من أعمدة الدبلوماسية المصرية التي صنعت مجد مصر على الساحة الدولية.