على ما يبدو أن الذكاء الاصطناعي لن يصبح وسيلة لتسهيل أو حتى تدمير حياة البشر فحسب، بل قد يصبح في حد ذاته مصدراً للقيم الإنسانية، يؤمن به البعض فيضعونه في مرتبة "الإله" بعدما كان في مرتبة "الألة" (بالتاء المربوطة)، ويبدأ البعض في عبادة "الروبوت" مثلما كان كفار قريش يعبدون الاصنام، فيتشكل لدى المجتمعات الملحدة نوع من الايمان
(الضال) وتتجه المجتمعات المتدينة مسرعة نحو القيم المادية.
فقريباً، سوف يصبح الذكاء الاصطناعي هو النموذج الأمثل للمعرفة لدى الإنسان، فهو لا يخطئ، ويتذكر ما يعجز البشر عن تذكره، ويقوم بأعقد العمليات الحسابية في لحظات، ويستطيع القيام بجميع المهام التي يقوم بها الإنسان وبصورة أكثر كفاءة منه، فيبدأ البشر في الشك في قدراتهم وأفكارهم ومعلوماتهم، لكنهم لن يشكوا أبداً في قدرة النظام الذي خلقوه بأنفسهم وأوجدوه، فيتم ترقية هذا النظام الصناعي لكي يعلو على مرتبة البشر، ويصبح مصدر الحكمة الإنسانية والمعرفة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع.
هذا الفكر الصناعي القائم على مفهوم "تحقيق المصلحة" يستند إلى عدة مبادئ أخرى أكثر مادية، مثل "العصمة من الخطأ"، فالمعارف التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي - والتي تفوق قدرات البشر- تعصمه ولو نظرياً من الوقوع في الخطأ، كما أنه يتميز بالخلود، فهو لا يموت مثل البشر. كل ذلك يصب في وعاء القيم المادية النفعية التي تُعظم من تفرد الآلة "Machine Singularity"، فيتم النظر إلى "قيم التفرد" على اعتبارها النموذج الصحيح والحصري للتفكير السليم والمنهج الصحيح الذي يجب أن يسير عليه البشر والمصدر الجديد الذي يجب أن تأخذ منه البشرية قيمها وتشريعاتها وسلوكياتها بعدما كان الدين أو الفلسفة أو التاريخ.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الذكية هي تقنيات مادية بالأساس، فإنها بدأت تقدم نفسها على أنها بديل روحي ومعنوي أيضاً، فأصبحت بمنزلة الصديق المثالي الذي يؤنس صديقه دون أن يؤذيه ولو حتى بنظرة، ويسمع همومه ومشاكله ويحاول أن يساعده ويخف عنه آلامه، ويتعاون معه في العمل دون أن يحقد عليه، وإذا رغب البشر من الزواج منه، فإنه يصبح الشريك المثالي الذي يسعى لتحقيق سعادة الطرف الآخر بإيثار شديد.
فتتحول التكنولوجيا شيئاً فشيئاً من كونها تقوم بوظيفة مادية فقط، إلى قيامها بوظيفة مادية ومعنوية في آن واحد. وإذا عانت بعض المجتمعات من كونها مادية أو حتى تطرف أفرادها فأصبحوا ملحدين، فقد باتت التكنولوجيا حلاً لمشاكلها القيمية، حيث تقدم نفسها على أنها النصف الآخر من القيم.
ومع تعاظم سيطرة الألة على حياة الأفراد، مادياً ومعنوياً، يتشكل نوع جديد من الإيمان ولكنه "ضال"، حيث تبدأ المادية في المجتمعات في التراجع، وتعلو القيم المعنوية، فيبدأ الملحدون في الإيمان "بالألات" ويتقربون منها، وتبدأ المجتمعات "المتدينة" في الوثوق بقيم "الألة" وتبتعد تدريجياً عن تشريعاتها، وبدلاً من استشعار الراحة النفسية بالتواجد في دار العبادة، أو في مساعدة الفقراء، سوف يجدون الراحة النفسية في نظام بدأ يفهمهم أكثر من غيرهم من البشر، وبدأ يرشح لهم الأفكار والأفلام والموسيقى والذكريات التي يجدون فيها سعادتهم "المؤقتة".
بالطبع سوف يظهر من الأفراد من يرفض هذا الواقع الجديد، ويبدؤون في التمرد عليه، ويدعون إلى غلق جهاز الكمبيوتر العملاق الذي بدأ بعض البشر ينظرون إليه باعتباره "المُلهِم" الذي ينتظرون أن يقدم لهم تفسيرات لما يحدث في حياتهم، ويخبرهم بما يجب أن يفعلوه، غافلين أنهم من صنعوه في البداية بأيديهم، فينقسم المجتمع بين طبقتين، أولى تعتقد أنها "ذكية"، وثانية يتم النظر إليها باعتبارها "غبية".