الدكتور على الحفناوي يكتب: حرب القرم وأسبابها التافهة

الدكتور على الحفناوي يكتب: حرب القرم وأسبابها التافهة

 

من المفارقات التاريخية تغير التحالفات الدولية التي تحتاج أحيانا إلى أبحاث عميقة لمعرفة سبب حدوثها المفاجئ وخلفيات تلك التحالفات. وقد كان القرن التاسع عشر شاهدا على تغيرات، بل تقلبات في تلك التحالفات، كانت تحدث بين ليلة وضحاها دون أن يعلم ويفهم عامة الناس ماذا يجرى في كواليس العلاقات الدولية.

ولنأخذ مثال ما حدث في موقعة نفارين البحرية في اليونان عام ١٨٢٧، فنجد أن الأسطول المصرى المتحالف مع الأسطول العثمانى بقيادة إبراهيم باشا قد تم مهاجمته في شبه جزيرة نفارين فى اليونان من قبل أساطيل ثلاثة دول كبرى متحالفة: فرنسا وانجلترا وروسيا... وبعد ذلك بسنوات قليلة نجد في بداية عام ١٨٥٤ اندلاع حرب القرم بين روسيا من جانب ضد تحالف تركيا العثمانية مع إنجلترا وفرنسا... فماذا حدث؟

كانت تركيا في حالة حرب ضد روسيا، فإذا بفرنسا وانجلترا توقعان اتفاقية تحالف معها في ١٢ مارس عام ١٨٥٤. وبعدها بأيام، وفى ٢٧ مارس، أعلنت كل من فرنسا وانجلترا الحرب على روسيا لأسباب أقل ما توصف به أنها تافهة. فكانت بداية حرب القرم، التي سميت هكذا لوقوعها في شبه الجزيرة التي تحمل هذا الاسم وعاصمتها "سيباستوبول". وتنتهى فترة السلام والهدوء القائمة في أوروبا منذ مؤتمر فينا عام ١٨١٥.

أما الأسباب الغريبة فقد جرت أحداثها في بيت لحم في فلسطين. حيث كان بعض الرهبان الكاثوليك من الملة اللاتينية يتبادلون حراسة كنيسة الميلاد مع رهبان أرثودوكس من الملة اليونانية. فاتهم اللاتينيين الرهبان الأورثودوكس بإخفاء "نجمة" معدنية من ديكور الكنيسة منقوش عليها بحروف لاتينية.

ثم وفقا للروتين المعتاد، قام بعض الديبلوماسيين الفرنسيين برفع مذكرة احتجاج الرهبان اللاتينيين إلى حكومة السلطان العثمانى (فقد كان للفرنسيين دورا تقليديا في حماية المسيحيين اللاتينيين في المشرق في ظل الحكم العثمانى). وفى تلك الفترة، انقلب الفرنسيون على الملك لويس-فيليب، وقامت الجمهورية الثانية، التي هوت في مستنقع التوجهات المحافظة المتشددة للسياسة الفرنسية. ولجذب الرأي العام الكاثوليكى، قامت حكومة الجمهورية الفرنسية عام ١٨٥٠ بتوجيه احتجاج شديد اللهجة إلى السلطان العثمانى.

وبهدف المزيد من التقرب للكاثوليك، قام وزير الخارجية الفرنسي، الجنرال ديوكوس لاهيط، بتوجيه طلب رسمي للأتراك، لإعادة كافة الاختصاصات السابق إلغاءها منذ أكثر من قرن (١٧٤٠) وكل الامتيازات القديمة للرهبان الكاثوليك... وفى مواجهة هذا التشدد الفرنسي، قام القيصر الروسى "نيقولا الأول" الذى يحمى الأرثودوكس، بالاحتجاج الرسمي لدى السلطان العثمانى، مطالبا إياه بإعادة أوضاع الهيمنة الأرثودوكسية لما كانت عليه في الماضى البعيد.

وفى عام ١٨٥٢، كانت أزمة "كنيسة بيت لحم" على وشك الاخماد، فإذا بقنصل روسيا في القدس، وبناء على توجيهات من القيصر، يخرج من المدينة محتجا بشكل مستفذ لافتا للأنظار. وكان ذلك نتيجة تصور القيصر أنه قد آن الأوان لإنهاء وحل مشاكل الشرق، متحالفا في ذلك مع عدد من الدول الأوروبية.

في يناير ١٨٥٢، اقترح القيصر نيقولا الأول على الحكومة البريطانية بحل مشكلة تركة أو ميراث الإمبراطورية العثمانية (رجل أوروبا المريض). فاقترح أن يستولى على بلاد البلقان مع السيطرة على ممر البوسفور والداردانيل، تاركا لانجلترا الاستيلاء على مصر وجزر الكريت اليونانية... ولكن إنجلترا رفضت اقتراحه، خوفا من زيادة نفوذ روسيا في البحر المتوسط والمشرق.

وبناء على هذا الرفض، قرر نيقولا الأول اللعب بمفرده. وفى أول يوليو ١٨٥٣، دخلت جيوش روسيا إلى مولدافيا ورومانيا، وقت أن كانت ولايات في الدولة العثمانية، ووصلت إلى نهر الدانوب... فلم يكن أمام السلطان عبد المجيد الأول إلا إعلان الحرب على روسيا، ولكن تم إغراق أسطوله في البحر الأسود يوم ٣٠ نوفمبر من نفس العام.

وهنا تنتهز إنجلترا الفرصة وتقود تحالفا جديدا لفرنسا وانجلترا مع السلطان العثمانى لإعلان الحرب على روسيا... حرب القرم؛ وهذه قصة أخرى.