الفن التشكيلي بين الصناعة والابداع
كتبت: نور طارق
باحثة ماجستير – كلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة
ظلَّ الفن التشكيلي على مر الزمان وفي مختلف البلدان مرآة للواقع الثقافي والاجتماعي، بداية من تجسيد الإنسان في العصر الحجري لحياته اليومية على جدران الكهوف، مرورًا بتوثيق الحضارات لنفسها تاركة لنا آثارًا ومعابد وعمارة خالدة، وصولًا إلى الحركات الفنية الثقافية المختلفة التي أثرت وتأثرت بالمجتمع، فظهرت في شكل مدارس فنية منها: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والتعبيرية والسريالية والتكعيبية والحركة الانطباعية وغيرها.
ومع الحركات الحديثة في الفن التشكيلي أصبح الالتزام الذي تعتنقه مدرسة معينة غير مُلزم لمدرسة أخرى، بل يصبح محل نقد وتبنى عليه فلسفة مغايرة قد تصل في ذروتها إلى النقيض، فيبدو الأمر «فوضى»؛ إذ لا يوجد ثمة اتفاق على مبادئ موحدة بين الفنانين التشكيليين المنتمين لمدارس مختلفة، ولكن الفنان التشكيلي يعي تمامًا خيوط الاختلاف ويغزل منها نظامه الخاص، فبالرغم من عدم وجود قانون واضح يمكن الاستناد إليه لتبرير الوحدة الإبداعية لأي عمل، فإن حس الفنان يقوده إلى إبداع إيقاعات مميزة تستطيع أن تُبرز النظام داخل الفوضى، فيستمتع بها المتذوق.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا: ما الذي يحققه الفن للفرد (الفنان) والمجتمع (المتذوق)؟ أو بمعنى آخر: ما الذي نبحث عنه في الفن؟ بالنسبة للفنان فالموضوع أعمق من أن يُنَاقَش بصورة عابرة فأيًّا ما كانت تجربة الفن ذهنية أو رمزية أو واقعية فكل عمل فني هو نتاج لعدد من المقومات، أما بالنسبة للمتذوق فالاستمتاع بالجمال المادي، سواء في الشكل المرسوم أو الألوان المستخدمة أو الملمس في أعمال النحت والعمارة، وكذلك الاتزان بين الكتلة والحجم والفراغ وغيرها من العناصر الجمالية..
جميعها تحقق له إشباعًا ما، إلى جانب التأثر بالناحية العاطفية فيما يعكسه العمل الفني من مشاعر فرح أو حزن، وهذا ينقلنا إلى العنصر التالي: المضمون القصصي للعمل الفني؛ حيث تدفعنا بعض التماثيل أو اللوحات إلى أن نتفحصها بدقة من أجل أهمية القصة التي تتأملها، وأحيانًا يُمارس الفن كتجربة دينية تنقل التعبير الجمالي كوسيلة لدعم الإيمان على جدران المعابد في شكل منحوتات وزخارف وأعمال تصوير تزين الكنائس والكاتدرائيات ذات النوافذ الزجاجية المبهرة.
وقد يظن البعض أن الفن بوجه عام والفن التشكيلي بوجه خاص ليس له مردود على حياة الفرد والمجتمع، بل يُعد شكلًا من أشكال الترف، لابتعاده عن رجل الشارع وفئات المجتمع الكادحة، وبهذا المنطق يدَّعون أن الفنان شخص منعزل عن الواقع يسكن برجه العاجي في منأى عن تفاصيل الحياة اليومية؛ مما أدى بالتبعية إلى زيادة الهوة بين الفنان والجمهور الذي لا يرى فائدة مباشرة من هذا الفن. وهنا يجب التفريق بين الفنان الحقيقي ومُدعي الفن، وبين العمل الفني الأصيل والعمل الزائف الذي اعتمد على الصنعة والحرفية، وافتقد الصدق في التعبير عن الواقع الاجتماعي المعاش، فالعلاقة بين الفن والحياة علاقة وثيقة، فالحياة بمختلف أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تُلهم الفنان بالتعبير عنها، والفن يرتقي بمستوى الحياة فيهذبها ويعيد قراءتها بحثًا عن حلول أخرى.
وبين الصناعة والإبداع تظهر شخصية الفنان التشكيلي، والتي تُشكل طابعه المميز، فالفن عندما يكون إبداعًّا يتطلب صنعة لها سمات فريدة تعكس شخصية الفنان، بعكس ما يخرج الفن في شكل حرفة متقنة مفتقدة إلى الروح، وبالتالي من الصعب فصل الصنعة عن باقي العوامل المكونة للعمل الفني. والصناعات الحديثة بالمنهج الإبداعي تعمل على تزاوج العلم بالفن في مختلف المجالات التطبيقية، فجميع الاختراعات العلمية وإن بدت في أولها عبارة عن نظريات أو معادلات رياضية مكتوبة أو مرسومة لا بد لها من تصميم جميل يكسبها شكلًا مميزًا بداية بصناعة المكواة مرورًا بالسيارة ووصولًا إلى الصاروخ.
وهكذا تتسع الصناعات الإبداعية من فكرة إنتاج الصورة إلى الإنتاجية في اقتصاديات الفن، وخلق لون جديد من الاقتصاد «اقتصاد برتقالي»، يشير إلى مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، بمعنى آخر تحويل الأفكار إلى سلع وخدمات ثقافية، ويضم المصطلح بمعناه الشامل جميع الديناميات المرتبطة بالأنشطة الثقافية المساهمة في السوق الاقتصادية، ويمثل الاقتصاد البرتقالي نحو ٤% من الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا الجنوبية، بما يعادل ١٢٤ مليار دولار أمريكي.
وإيمانًا بأهمية الصناعات الإبداعية في تعزيز الاقتصاد من ناحية والحفاظ على التراث الثقافي من ناحية أخرى، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانًاٍ عام ٢٠٢١ «سنة دولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة»، ورغم تعدد المبادرات المؤسسية العربية لتطوير مفهوم الصناعات الإبداعية، فإنه لا يوجد انعكاس كبير لهذه المبادرات على تشجيع تلك الصناعات أو تطويرها، والتسويق الفعال لها، ونشر الوعي بأهميتها في تنمية الاقتصاد العربي.
استطاعت مصر تحقيق خطوات ناجحة في مجال الاقتصاد الإبداعي والصناعات القائمة عليه، فقد زادت صادرات مصر من السلع الإبداعية منذ إدراج مدينة «أسوان» ضمن قائمة المدن ذات الصناعات الإبداعية التي وضعتها اليونسكو عام ٢٠٠٤، ومع إطلاق استراتيجية التنمية المستدامة «رؤية مصر ٢٠٣٠» في عام ٢٠١٦، تم التأكيد عليها كشرط من شروط تحقيق التنمية المستدامة. وفي العام نفسه اعتمد المجلس الثقافي البريطاني في مصر مبادرة الاقتصاد الإبداعي؛ لتطوير التعاون بين المملكة المتحدة ومصر في مجال الصناعات الإبداعية، لرسم خرائط الاقتصاد الإبداعي في مصر، وفي مارس ٢٠١٩، تم توقيع اتفاقية بين وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ووزارة الثقافة المصرية، بهدف إطلاق مشروع «بوابة المحتوى الرقمي المصري على الإنترنت» بهدف نشر الثقافة المصرية وإتاحتها رقميًّا لجميع شعوب العالم.
صورة بانورامية للفن التشكيلي المصري
سبقت مصر العالم كله في إبداع الفنون منذ سنوات حضارتها الفرعونية الأولى، في عصر ما قبل الأُسرات، ومن الحضارة الفرعونية للعصر اليوناني الذي تميز بازدهار العمارة المدنية، ثم الحضارة القبطية التي كان النسيج فيها بارزًا، ومن بعدها الفن الإسلامي الذي تميز بالزخارف الهندسية والعمارة وفن الأرابيسك والزجاج الشفاف رغم تراجع حركة الفن في مجالات الرسم والتصوير والنحت. ومع بدايات حركة الفن الحديث في مطلع القرن العشرين، عادت حركة الفن التشكيلي (الرسم والتصوير والنحت) بعد توقف دام نحو ثلاثة عشر قرنًا.
ولقد ارتبطت النهضة الفنية الحديثة في مصـر بمجموعة من العوامل والاعتبارات التي صاغت الفكر والوجدان معًا، بحثًا عن الذات والهـوية الحضارية لمصـر، فكان النهوض بالفنون – لا سيما الفن التشكيلي - أحد وسائل التعبير عن الشـعور الوطني العـام وعنصرًا من عناصر الحـركة الوطنية المصرية من أجل الاستقلال والتقدم؛ لذلك كان لبعض رواد الفن التشكيلي في مصر دور لا يقل أهمية عن دور رواد التنوير الفكري.
توالى في مصر ظهور العديد من الجماعات الفنية التشكيلية، ففي عام ١٩٢٨ تأسست «جماعة الخيـال» برئاسة المثَّال «محمود مختار»، ثم «جماعة هواة الفنـون الجميلة» بالإسكندرية عام ١٩٢٩، وفي عام ١٩٣٢ تم تأسيس جماعة «المجمع المصري للفنون الجميلة» برئاسة «محمد صدقي الجباخنجي»، ثم تكونت «رابطة الفنانين المصريين» في العام ١٩٣٦، إلى أن وصلت الحركة إلى الأربعينيات لتظهر «جماعة الفـن والحرية» وتضم أسماء وروادًا كبًار في التشكيل المصري ، منهم : فؤاد كامل، ورمسيس يونان، ... وصولًا إلى جماعة «الفن الحديث» في مصر عام ١٩٤٨. وفي عام ١٩٥٠ قامت مجموعة من الفنانين الرواد (منهم: محمد حسن وراغب عياد) بتأسيس جماعة «لاباليت». وفي عام ١٩٥٣ تأسست أكثـر المجموعات استمرارية وصمودًا من بين الجماعات السابقة، وتحمل اسم جماعة «أتيلييه القاهرة» حتى اليوم، والتي أسسها الفنانان: محمد ناجي وراغب عياد، وتمارس نشاطًا ثقافيًا وفنيًا أصبحت من خلاله معلما إبداعيًا عالميًا في وسط القاهرة. وفي عام ١٩٦٤ تألفت «جماعة فسيفساء الجبل» على يد الفنان عمر النجدي، وهو فنان ينتمي للجيل الثاني لفن الجرافيك المصري. وعلى الرغم من هذا التألق تفشت في الستينيات بين النقاد والفنانين ظاهرة البعد عن الفلسفة الجمالية والاجتماعية، والاكتفاء بمراقبة ما يجري في الغرب من صيحات فنية أمريكية وأوروبية، وظهر مفهوم «الفن الحديث» بعيدًا عن أي اتجاهات وطنية محلية. وأقبلت فترة السبعينيات محملة بمدارس فنية مختلفة، وظهرت مفاهيم جديدة ومُدركات اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة للفن التشكيلي، والذي لم يقتصر بدوره على المتاحف فقط بل أضحى جنبًا إلى جنب مع العناصر الصناعية النفعية، فازدحمت الشوارع بلوحات الإعلانات ذات التصميمات والزخارف المتنوعة، فكانت بداية انتشار «الفن الجماهيري».
وكان لثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات دور بالغ الأثر في فنون ما بعد الحداثة في مصر والعالم، فمن ناحية تم تعليب الثقافة وتحويلها إلى سلعة يسهل تداولها وتخضع لآليات السوق والعرض والطلب، ومن ناحية أخرى أدى الإنترنت إلى هيمنة عصر الصورة، فظهر نسق مغاير يحطم الفوارق بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة، وتم إطلاق شعار «الفن للجميع»؛ تعبيرًا عن النزعة التسويقية والروح الاستهلاكية، فظهرت تقنيات الجرافيكس وإمكانية تعدد النسخ الموقعة باسم الفنان نفسه وبتكلفة وجهد أقل مما كان ينفقه الفنان في لوحة مفردة.
هذه التقنيات مهدَّت الطريق لخلق أزمة حقيقية في الفن التشكيلي بمعناه التقليدي، فتخلى الفنان عن فرشاته وذهب إلى تقنيات الحاسب الآلي يلاحق العلامات التجارية، ولم يعد هناك جدوى من البحث عن الأصالة والتميز في عصر غلب عليه الاستنساخ السريع، هذا ليس اعتراضًا على تقنيات الفن الرقمي Digital Art، ولكنها وقفة لتأمل ملامح أزمة الفن التقليدي.