استمرار الحركات الإرهابية يقوض الديمقراطية الإفريقية
كتبت/ بلقيس الحيدري
باحثة ماجستير بكلية الدراسات الإفريقية جامعة القاهرة
ولعل أبرز التحديات السياسية التي تفرضها ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، هي تقويض هذه الممارسات للديمقراطية داخل الدول الإفريقية، نتيجة انعدام مناخ الأمن المرتبط بوجود الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، وهو ما يقود إلى انتشار وعودة الاستبداد في العديد من دول غرب إفريقيا، حيث لا تزال الدول الإفريقية نتيجة الممارسات الإرهابية تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، ثم تعود خطوتين إلى الوراء، وهو ما يشبه إلى حد ما مسيرة جراد البحر، ولعل أبرز هذه الشواهد التي قادت في سبتمبر 2020 إلى استقالة الرئيس "إبراهيم بوبكر كيتا" في مالي نتيجة الانقلاب العسكري، إذ حل محله الجيش، ثم الانقلاب مرة أخرى من العقيد "أسيمي جويتا" مجددًا بعد أقل من عام، ثم بعد ذلك التغييرات التي أجراها الرئيس الإيفواري "الحسن واتارا"، ثم الإجراءات التي أجراها الرئيس "ألفا كوندي" في غينيا قبل الانقلاب عليه، والملاحظ للمشهد أن هذه التغييرات كانت على دستور بلديهما للترشح لولاية ثالثة، والتي قادت الاضطرابات السياسية التي لم تفشل في أن تفاجئ بينما بدت بلدان غرب إفريقيا في معظمها وكأنها تطوي صفحة الأنظمة الاستبدادية، نتيجة استمرار الاضطرابات التي شهدتها العديد من دول الساحل الإفريقي ومنطقة غرب إفريقيا، بعد انتشار واسع وكبير للحركات الإرهابية والمسلحة.
ضعف سيطرة الدولة على أجزاء كبيرة منها.
يُعد مناخ انعدام الأمن المرتبط بوجود الجماعات الإرهابية في قطاع الساحل يساهم في عدم الاستقرار السياسي الذي يبدو الآن أنه ينتشر في العديد من الدول الفرانكفونية في غرب إفريقيا، من أبرز العوامل الداخلية يمكن أن تفسر هذه الظاهرة، فقد شهدت بوركينا فاسو استقالة من جانب رئيس الوزراء البوركيني السابق "كريستوف دابيريه"، قبل الانقلاب العسكري الذي وقع بالدولة مؤخرًا، وجاءت هذه الاستقالة بعد موجة الغضب التي اجتاحت السكان في مواجهة أعمال العنف الجهادية التي تمر على البلاد.
لا شك أن التهديدات الناشئة عن انتشار الأعمال الإرهابية تؤثر بشكل كبير من النواحي الاقتصادية على دول الساحل الإفريقي، وتؤدي إلى استنزاف كم هائل من موارد الدولة، حيث لا تزال تواجه الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا مشكلة متكررة تتمثل في نقص الموارد، وأشار المسؤولون الذين تمت مقابلتهم إن الأموال غير متوفرة، لم يتم إعطاء سبب محدد، باستثناء الاختلافات الواضحة بين الدول الأعضاء حول آليات تمويل الخطة. وبدلاً من المساهمة في الوعاء المشترك للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، قررت بعض البلدان تمويل الأنشطة بما يتماشى مع مبادراتها الوطنية لمكافحة الإرهاب، والتي لا تتوافق بالضرورة مع استراتيجية الخطة.
كما تشكِّل منطقة الساحل الإفريقي معضلة أمنية تكاد تستعصي على الاستراتيجيات والمقاربات الأمنية المعتادة. يصفها بعض الدارسين بأنها بمثابة مركب أمني بالغ التعقيد والتشابك، كما أنها تُعد الحبل السُري بين مكونات الفضاء الجيوسياسي للقارة الإفريقية، وبالتالي فإن مظاهر معضلتها الأمنية لا تُشكِّل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا لإفريقيا فحسب، بل أصبحت آثارها غير المباشرة مصدرًا لتهديد أمن دول الجوار العربية وما وراءها، ولا سيما بالنسبة إلى أوروبا. وربما يقف خلف هذه المعضلة عوامل متعددة، مثل: السياسات غير المستقرة، والإرهاب والتطرف العنيف، والديون الخارجية، والتدهور البيئي، والحروب الأهلية، وانعدام الأمن الغذائي، والنزوح الجماعي، والحدود السياسية الهشة التي يسهل اختراقها، والهجرة غير الشرعية، والإتجار بالمخدرات، وما إلى ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، لجأت بعض الدول بالساحل وبالتنسيق مع جماعة الاقتصادية دل غرب إفريقيا إلى توزيع الأموال التي خصصها الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا بشكل مباشر على الدول الأعضاء، على الرغم من تعهد نيجيريا وغانا بالمساهمة في الوعاء المشترك بما يصل إلى 400 مليون دولار أمريكي، إلا أن هذين البلدين لم يسددا أي مدفوعات كبيرة حتى الآن. قد يكون هذا بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها هذه البلدان، ولا سيما بسبب الانخفاض الكبير في أسعار النفط، في حالة نيجيريا، ومع ذلك، يمكن أن يكون أيضًا علامة على عدم ثقة ضمني في الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والتي لا يُنظر إليها على أنها آلية إقليمية فعالة لمكافحة الإرهاب، ومما يزيد هذه المشكلات تعقيدًا الأهداف والأولويات المشكوك فيها لخطة العمل. على سبيل المثال، تهدف بشكل خاص إلى إنهاء الإرهاب في المنطقة في غضون خمس سنوات. بالنظر إلى أن الإرهاب يهدد جميع الدول الخمس عشرة الأعضاء في الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وأنه يمثل مشكلة كبيرة في أربع منها على الأقل (مالي والنيجر ونيجيريا وبوركينا)، فهذا هدف جيد وطموح للغاية، كما أن مكافحة الإرهاب مهمة معقدة يجب تصورها على المدى الطويل وتتطلب استثمارات كبيرة من الوقت والمال. وهذا بلا شك جزء من سبب عدم التزام دول المنطقة بشكل كاف بتنفيذ خطة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
كما أن ازدواجية الآليات أو المبادرات الهادفة إلى مكافحة الإرهاب، في نفس مسرح العمليات، مرتبطة بغياب إطار شامل يحدد الرسالة التي يتعين متابعتها، والتوجهات الرئيسية أو محاور التدخل مصحوبة بخطة عمل تفصيلية للأهداف، الخدمات أو الأدوات التي تهدف إلى تنفيذ هذه الإجراءات والموارد التي ينبغي أن تستفيد منها كل أداة أو خدمة، والجدول الزمني لتنفيذ كل نشاط ومسؤوليات الاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية، مثل هذا النهج الذي يحدث في المنبع، ويوفر قدرًا أكبر من القراءة والرؤية للإجراءات المختلفة المتبعة ويسهل تنسيقها وتعديلها الدائم للقيود الداخلية (نقاط الضعف والفجوات في الآلية) والقيود الخارجية (التغييرات التي لوحظت على أرض الواقع).
الدوافع الهيكلية - حالة الهشاشة في الساحل والصحراء
تواجه مجتمعات الساحل مجموعة مترابطة من التحديات الاقتصادية، مع الأزمات المتكررة والضغوط المتزايدة على الأراضي والموارد والتوظيف، مما يجعل هذه الدول من بين أكثر الدول ضعفًا في العالم. لقد تراجعت النيجر وتشاد ومالي لسنوات عديدة إلى ذيل دليل التنمية البشرية للأمم المتحدة، الذي يقيس المؤشرات الأساسية، مثل: الصحة والتعليم ومستوى المعيشة، ومع ذلك لا تعكس الأرقام المجمعة على المستوى الوطني النسبة الحقيقية للفقر والضعف في المجتمعات الأكثر تعرضًا للخطر، وتعد المناطق التي تغلغلت فيها الجماعات المتطرفة العنيفة من بين أكثر المناطق تهميشًا ومعاناة من حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفي كثير من الحالات، تعد هذه المناطق المهمشة هي الأسوأ على مستوى مجتمعاتها الوطنية، كما أدى التدهور البيئي وتغير المناخ إلى إضافة طبقة من الضعف إلى بيئة اقتصادية هشة بالفعل، ومن المعروف أن الغالبية العظمى من سكان منطقة الساحل تعتمد على الزراعة، أو الرعي، أو تربية الماشية، من أجل الحصول على سبل العيش، وكلها ذات طبيعة حساسة للغاية تجاه الصدمات المناخية والخارجية. على سبيل المثال انخفض المتوسط السنوي لهطول الأمطار في جميع أنحاء المنطقة بشكل حاد منذ السبعينيات، وتقلّصت السهول الفيضية، والمستنقعات الموسمية، واختفت في بعض الحالات، وقد تقلّصت بحيرة تشاد والأراضي الرطبة المرتبطة بها بنسبة 95% في نصف القرن الماضي.
ومما يزيد الطين بلة أن التوسع السكاني السريع يؤدي إلى مضاعفة الآثار السلبية الناجمة عن العوامل السابقة، وتتراوح معدلات النمو السكاني الوطنية بين بلدان الساحل من 2.9% إلى 3.9% سنويًا، كما تعد معدلات الخصوبة من أعلى المعدلات في العالم، وطبقًا لأرقام البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فإن ما يقرب من نصف السكان في جميع أنحاء منطقة الساحل تقل أعمارهم عن 15 عامًا، ونتيجة هذه الاتجاهات هو أن عددًا متزايدًا من الأفراد يتنافسون على مخزون متناقص من الأراضي الخصبة والمياه؛ إذ يقوم الرعاة بتوسيع نطاق مراعيهم جنوبًا بحثًا عن مصادر الكلأ والماء، ويتعدون على المناطق التي كان يستخدمها تقليديًا أصحاب المهن الزراعية المستقرة. علاوة على ذلك، مع تزايد الطلب على الغذاء، يقوم المزارعون بتوسيع مناطق إنتاجهم إلى مناطق يستخدمها الرعاة تقليديًا، وعليه فقد أصبحت سبل العيش التقليدية أقل قابلية للحياة بمرور الوقت، وفي الوقت الحالي، هناك عدد قليل من الخيارات المتاحة أمام الناس، ويواجه الشباب مشكلات البطالة وقلة الدخل، ولعل تأثير ذلك يظهر بشكل بارز في جاذبية خطاب الجماعات المتطرفة العنيفة، والتجنيد داخل صفوفها.
تعاني المنطقة كذلك من غياب مفاهيم الحكم الرشيد والتنمية المستدامة؛ إذ عادة ما يركز الحكام على ديناميكيات القوة بين النخب السياسية في العاصمة، أكثر من التركيز على التنمية الشاملة على المستوى الوطني، وقد شهدت تشاد ومالي والنيجر فترات طويلة من الحكم العسكري، ولا تزال القواعد والمؤسسات الديمقراطية ضعيفة وهشة، وعلى الرغم من إجراء الانتخابات الوطنية على فترات منتظمة، نادرًا ما يتم تحديد نتائج الانتخابات من خلال الأداء الحكومي، أو تقديم الخدمات، ولكن بالأحرى عن طريق المحسوبية، وسياسات الهوية العرقية أو الدينية، وفي جميع أنحاء المنطقة، لا تزال الفجوة بين الحاكم والمحكوم شاسعة، ويدرك القادة وجود حالة من الانقسام وعدم الرضا، وعدم الاستقرار، لكن رد فعلهم هو حماية نظام حكمهم، وليس الإصلاح.
لقد تطورت الديناميكيات السياسية بشكل مختلف داخل كل سياق وطني، ولكن من بين القواسم المشتركة الأساسية كانت الفجوة بين الدولة المركزية وأطرافها المهمشة، وضعف مؤسسات الحكومة المحلية، والأثر المدمر للفساد، وعلى سبيل المثال كانت مالي حتى تفككها السياسي السريع في عام 2012، نموذجًا يتم الإشادة به في دوائر التنمية الغربية باعتبارها نموذجًا للتقدم الديمقراطي وتعزيز الديمقراطية، لكن الاستقرار الظاهري في البلاد وإجراء الانتخابات بانتظام كان يُخفي خلفه الاستياء العام المتزايد من النخبة الحاكمة، والضعف الدائم لمؤسساتها الحاكمة، وكان تركيز السلطة في المنطقة الجنوبية لمالي مصدرًا للظلم الدائم، وانعدام الثقة للمجتمعات في الشمال، وعلى الرغم من أنه ليس محور الانقسام الوحيد داخل البلاد، فإنه كان محوريًا بشكل يدفع إلى الصدام، ولم يكن لدى سلطات الدولة في مالي حافز يُذكر لاستثمار الموارد أو الاهتمام بمناطق الشمال؛ إذ تقع صناعة التعدين في البلاد، وهي أكبر مصدر لعائدات التصدير، في النصف الجنوبي من مالي، أما المنطقة الشمالية، التي تضم 10% فقط من سكان البلاد، لا تهتم كثيرًا بالسياسة الوطنية كمصدر للعائدات الاقتصادية أو السياسية.
وختامًا، ترجع جذور العداء تجاه النخب السياسية في باماكو من قِبل البدو الرُّحل الطوارق في الشمال منذ الحقبة الاستعمارية، الأمر الذي تجسّد في تمرد واسع النطاق في عام 1962 و1992 و2012، وبعد اتفاق سلام مع مقاتلي الطوارق في التسعينيات، أطلقت الحكومة المالية عملية لا مركزية، تهدف إلى نقل المزيد من الموارد، وتفويض السلطات إلى المؤسسات الإقليمية والمحلية المنشأة حديثًا، لكن العملية لم تنفذ بالكامل، فغالبًا ما يتم وضع العراقيل أمام المسؤولين المنتخبين محليًا، أو تهميشهم من قِبل إداريين معينين مركزيًا، وبدلًا من متابعة انتقال حقيقي للسلطة، سعت الحكومات المتعاقبة في باماكو إلى الحفاظ على الموارد، وإدارة الشمال بالوكالة، واستخدمت النخب الحكومية المحسوبية والتعيينات الإدارية المحلية لاستقطاب الحلفاء والحفاظ عليهم، ودعمت الميليشيات المحلية لاستغلال الانقسامات العرقية، والمساعدة في تحييد المنافسين، وقد ساعد ذلك في ضمان التواطؤ مع شبكات التهريب، وفي الوقت نفسه وفرت مصدر دخل تكميلي غني للنخب الحاكمة في باماكو.