تشققات بدأت تبرز بين أكبر اقتصادين في أوروبا، واللذان يلقبان بـ"محرك الاتحاد الأوروبي": ألمانيا وفرنسا
نبدأ بالشرارة:
الأسبوع الماضي كان من المفترض عقد الاجتماع السنوي التشاوري الألماني الفرنسي، وذلك لأول مرة حضورياً منذ اندلاع جائحة كورونا. ولكن قصر الإليزيه أعلن إلغاءه بسبب مبرر ألماني غريب: تضارب الموعد مع إجازات بعض الوزراء الألمان!
هذا الاجتماع يُفترض أن يناقش ملفات حيوية ويأتي وسط أزمة أوروبية كبيرة وحرب على أبوابها، ولكنه ألغي لأن خمسة وزراء ألمان - بينهم وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك - يريدون قضاء إجازات الخريف؟!!
فنلق نظرة تحت غطاء هذا المحرك:
منذ تولي أولاف شولتس منصبه مستشاراً لألمانيا، برزت علامات شقاق بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، زادت من حدتها تبعات الحرب الروسية الأوكرانية.
في الوقت الراهن، هنالك ملفان رئيسيان تختلف عليهما باريس وبرلين: الطاقة والدفاع
١. الطاقة:
بينما يساند الرئيس الفرنسي جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى إطلاق حزمة دعم مشتركة لأسعار الطاقة، اختار المستشار شولتس الطريق الفردي، وأعلن عن حزمة خاصة بألمانيا لدعم أسعار الطاقة بنحو ٢٠٠ مليار يورو، ودون إعلام باريس مسبقاً!
هذه الحزمة الضخمة من شأنها أن تؤثر سلباً على بقية الدول الأوروبية الأقل قدرة من ألمانيا على الاستدانة لتثبيت أسعار الطاقة لديها. مثل هذا المبلغ العملاق سيتيح لألمانيا شراء ما تحتاج من طاقة وبأي سعر، ما يعني بالتبعية ارتفاع أسعار الطاقة على باقي الدول.
إلا أن هناك بعض التكهنات التي تقول إن جزءً من التحرك الألماني يأتي رداً على رفض فرنسا مقترحاً لمد خط "ميدكات" للغاز عبر أراضيها إلى ألمانيا. هذا الخط يربط الجزائر بإسبانيا، ومده إلى ألمانيا حظي بقبول ألماني وإسباني وبرتغالي. لكن الفرنسيين رفضوه بحجة أنهم لا يريدون الاستثمار في بنية تحتية للغاز الطبيعي، وأنهم يفضلون الطاقة النووية (التي يرفضها الألمان).
٢. الدفاع:
منذ سنوات والرئيس الفرنسي ماكرون يطالب بما يسميه "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي"، والتحرر من الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة. طبعاً لا يفوتنا أن هذه المطالبة فيها نظرة ربحية، لأن ذلك سيعني انتعاش الصناعات العسكرية الفرنسية كبديل للأمريكية.
الحرب في أوكرانيا أدت إلى رفع معظم الدول الأوروبية من إنفاقها العسكري، وعلى رأسها ألمانيا، التي أقرت حزمة دعم بقيمة ١٠٠ مليار يورو لموازنة الجيش الألماني (بوندسفير). ولكن بدل أن تُصرف هذه المليارات المائة في تطوير الصناعات العسكرية الأوروبية (كما يريد ماكرون)، سيذهب معظمها لشراء عتاد عسكري أمريكي، لاسيما مقاتلات "إف ٣٥" الشبحية.
فوق هذا كله، فإن فرنسا ممتعضة من عدم إشراكها في مبادرة تقودها ألمانيا و١٤ دولة في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تحمل اسم "مبادرة درع السماء الأوروبي"، وستعتمد على شراء كميات كبيرة من بطاريات الدفاع الجوي الأمريكية والإسرائيلية. فرنسا تريد استثمار هذه الأموال في تطوير البنية التحتية الدفاعية الأوروبية، بدلاً من شراء معدات الأمريكيين أو غيرهم.
الحساسيات الفرنسية مفهومة، بالنظر لأن الحلول طويلة الأمد والاستثمار في تشجيع الصناعات الوطنية سيعود بفوائد كبيرة، ولكنه بالنسبة لدول أوروبية أخرى، ومن بينها ألمانيا، لا يحل المشاكل الآنية، وبالتالي فهم يفضلون حلولاً سريعة ذات أثر فوري، حتى وإن كلفتهم الكثير.
هنالك دخان بدأ يتصاعد من "محرك أوروبا" .. لكن هل ينجح الأوروبيون في إصلاحه، أو يجلس الألمان والفرنسيون على طاولة واحدة ويحلون مشاكلهم قبل فوات الأوان؟
هذا ما سنعرفه في العام المقبل، ربما!