الباحث خليل منون يكتب: مديدة الـــــُدخن

الباحث خليل منون يكتب: مديدة الـــــُدخن


الباحث خليل منون باحث انثروبولوجي في الثقافات الأفريقية

هل جربتها من قبل يا صديق؟ لك أن تجربها، ربما نفهم شئ عن الثقافة السودانية.

تحفل المائدة السودانية بالعديد من أنواع المديدة، هكذا أخبرني الأصدقاء، لكن تصادف برمضان زيارتي للسودان للمرة الأولى، وأني قد جربت مديدة الُدخن دون غيرها من أنواع المديدة السودانية. وبعيداً عن سمعتها كمقوي عام، وهو ما يجعلها ذات سمعة كبيرة وطيبة، وبالمناسبة بعالم الرجال  إلا أنها قد تكون مدخل جيد لفهم الثقافة السودانية، أو لأكن أكثر جرأة وأقول الثقافات السودانية.

مديدة الُدخن تنتشر بالأقاليم السودانية كأي ثقافة تغذية أخرى، بالطبع مع أنواع مديدة أخرى وفق تنوع الأقاليم الثقافية السودانية وخصائص ميراثها الزراعي، لكن مديدة الدخن قد تنتمي نوعاً لغرب السودان، وهي كغيرها من صنوف الغذاء تحتاج لجهد كبير بصناعتها، لكن أهم ما يؤشر على سودانيتها الخالصة انتمائه خاصة لثقافة الغرب السوداني، عبر امتياز طحين حنطة الــدُخن.

الُدخن واحد من المزروعات التي لا نعلم شئ عنها بمصر، فما بالك بطحينه! وتكثر زراعته بمناطق غرب السودان بإقليم دارفور وكذلك كردفان، وبشكل ربما محدود بالمقارنة نجده بولاية النيل الأزرق، فهو حنطة بامتياز حصري لقارتنا الأفريقية، ويصادفنا انتشارة في دولة عديدة من القارة. هنا تجربتي مع المديدة كانت طازجة كلياً، تجهلها خبرتي كليًا. ولا تعرف عنها ذاكرة معدتي شيئ. دعوني بدءًا أشير إلى ملاحظة خاصة لدى عن الطعام وصنوف الغذاء السودانية، الطعام بوجه من الوجوه تتلقاه الإنسانية عبر حواس بعينها، حاسة التذوق وكذلك حاسة الشم، قطعا العين تلعب دورًا، لكن الحاسة الأخيرة ليست أساسية بالأطعمة وتاريخها الطويل والمتنوع، بقدر تعلقها بفنون وتقاليد النخب "الراقية" سواء تلك التي نعرفها باسم الأرستقراطية أو وريثتها البرجوازية، وهو ما نعرفه بفن تقديم الطعام، لا إعدادة أو مكونه.

السودان برأي شخصي جدا، ثقافة تدعم حاسة الشم وتعلي من قدراتها، أو لأقول تجعلها أولوية أولى، ليس فقط في الطعام والشراب فقط لكنها توسع من صدارته في تلقي العالم والعيش فيه، من هنا؛ تُعلي الثقافة السودانية من قيمة الروائح لتغذية حاسة الشم والإعلاء من قيمتها إلى أبعد الحدود، ربما من هنا ندرك الولع السوداني بالروائح العطرية والبهارات.

هُنا قد نفهم ثقافة المرأة المدخنة بالثقافات السودانية، والدلكة العطرية للجسد.. إلخ، وقد نفهم روائح الطعام والشراب النفاذة، و"الدواء" عند ستات الشاي، والدواء: هو خلطة عطرية من البهارات وهي حصرية عند كل ست شاي في السودان، تضاف للمشروبات الساخنة كالشاي والقهوة..إلخ، والتى تمنح مزاج الشاي والجبنة "القهوة" فرادة خاصة لكل واحدة منهن غير قابلة للتكرار أو المصادفة عند غيرها من بائعات الشاي التي يندر أن يخلو منهن طريق بالسودان.

لأعود مجددا لمديدة الــُـدخن، أتذكر هنا، أنها تقدم دافئة نوعا، وخبرتي المصرية لا تمنحني فرصة تصنيفها، هل هي شراب أم تراها طعام! لكن؛ لا شك وأنها مغذية جدا مما يتعذر معه تصنيفها، فهي سائل متماسك، وتشرب بالكوب، لهذا قد تكون شراب، وبعيدا عن مكونها وسر إعدادها، إلا أن رائحتها ليست نفاذة كغيرها من صنوف الطعام والأشربة السودانية! هذا السائل المتماسك بفعل الطحين، عصى على الوصف أو التصنيف! لكن كملاحظة أولية يتشابه طعمها بشكل ما مع العاشورا بتجربتنا المصرية. على طرف اللسان خشونة ما تنساب بفعل هذا المخفوق المطهو الدافئ، ربما كوب صغير يكفي لأن تشعر بالامتلاء والشبع، ينتج عنه بعد وقت شعور بإعادة إنتاج وتسرب دفء المديدة بكل الجسد! وبتجربتي مع مديدة الدخن، بكل الجسد يتسرب نشاط ما، أثر انتشاره بعمليات الهضم وما إلى ذلك من عمليات فسيولوجية.. إلخ.

أين نجد السودان بمديدة الــُدخن؟ لعل كثافة مديدة الدخن، قد تكون مدخل جيد لفهم الثقافة السودانية نفسها، حالة الدفء والكثافة والتنوع والاستعصاء على الشرح وخشونة السائل بمعطى ثقافي واحد، قد تكشف عن معنى "المزيج" أو لأقول "السبك" المعقد لمقومات تأسيسية متنوعة حد الاختلاف بشرط نهائي وهو وحدة المنتج نفسه والمذاق. فالسودان بوجه من الوجوه ثقافات متنوعة، قد تبدو مقوماته متنازعة لكنها بالنهاية قادرة على طرح ذاتها بسبك واحد، مشروط بالدفء والوحدة، ومديدة الُدخن تنتمي لغرب السودان تاريخا ومنشًأ.

خشونة الحياة تلك التي تنساب مع مخفوق الطحين المتماسك وغير الصلب، أقرب ما تكون لطرائق الحياة السودانية نفسها، يبدو لي أن طحين الــُدخن وهو جوهر مركب المديدة هنا غير منخول، من هنا تأتي آثار الخشونة على حافة اللسان، هنا تحديداً تعلن الثقافة السودانية عن مكونها دون تفريط عن الأصل الطبيعي للأشياء، بمعنى أنها ثقافيا لا تفرز الطبيعي وتنحية جانبًا أو تلغية بالعمليات الثقافية نفسها.

من هُنا يكون السوداني جزء من الطبيعة لا سيد عليها، يتفاعل معها وينفعل بها، غير مُفِرط بشوائبها أو عازل لها بدعاوى الثقافة وانتصار الإنسان الكلي على الطبيعة، فهو يقف بمنتصف المسافة بين الطبيعة والثقافة. ليحقق الفائدة من الطبيعة عبر سبك الطبيعة ثقافيًا، ما فاتني التنبيه عليه ولابد من التأكيد عليه، أن مديدة الدخن ليست غنية بالروائح النفاذة مقارنة بمثيلاتها أو قريناتها على مائدة الطعام والشراب السودانية، وهو أمر لفتني، وما يجعلني بالجهة الأخرى أرى أن فعلها بعد زمن الهضم، كان أولوية بالثقافة السودانية، هو تحقيق التوازن بين ما هو طبيعي وثقافى بعالم الثقافة السودانية، وهو ما يفتح الباب أمام فهم تصورات الثقافة السودانية عن الوقت. وما يمنح الثقة في كونها مدخل للفهم، أن من أنواعها العديدة وفق حنطة طحينها منتشر بربوع السودان وكافة أقاليمه، فمديدة الُدخن واحدة من صنوف المديدة المتنوعة بقائمة الأطعمة والأشربة السودانية.

فالوقت سودانيًا يحتاج لزمن كي يفعل فعله ويحقق حضوره، ولا دخل للفعل الثقافي في تعجيل أو شرط حدوثه، كما لو أن الأمر أي أمر كان، أن ما سيكون لابد وأن يكون وبوقته، وبوقته الخاص الذي يلزمه، والذي ليس بالضرورة أن يكون وفق ما نريد له، بل ويكفينا الإنتظار والتأمل وربما الدهشة.