العلاقات المصرية الافريقية منذ ثورة يوليو ١٩٥٢

بقلم : رغدة السيد جودة السيد
العلاقات المصرية الافريقية تضرب بجذورها في اعماق التاريخ المصري، حيث كانت افريقيا واحده من اهم الجهات التي اتجه اليها شعاع الحضارة المصرية الفياض، كما كانت مصر عبر التاريخ حلقة اتصال بين القارة السمراء وبين الحضارات الاخري عربية كانت او اسيوية او اروبية، حيث يضرب الاتنماء المصري الي افريقيا الي عمق التاريخ وذلك منذ ان حرصت الدولة المصرية علي ايفاد رحلات استكشافية الي منابع النيل بحثا عن مصدرهذه الشريان واهب الحضارة المصرية وفي هذا السياق تشير النقوش الاثرية علي جدران المعابد الفرعونية الي اولي هذه الرحلات الاستكشافية في عصر الملكة حتشبسوت التي وصلت الي بلاد بونت ( الصومال حاليا ) ومن جانب اخر شهدت بدايات التاريخ الميلادي حضورا مصريا قويا بعد دخول المسيحية مصر كما اخذت العلاقات المصرية الافريقية بعدا هام خلال دخول الاسلام القارة حيث جاء ابناء القارة الافريقية للدراسة في الازهرالشريف برز منهم ابن خلدون في تونس والجبتري في اثيوبيا والزيلعي والهرري من الصومال والتكروري من غرب افريقيا ، هذا الي جانب بعض الاسماء التي حملتها اروقة الازهر الشريف وغبرت عن الروابط المصرية الافريقية ، وكانت هذه الاروقة تحمل اسماء المناطق التي درس فيها ابناؤها مثل رواق التكروري كما مثلت افريقيا احد اهم دوائر السياسة الخارجية المصرية، كما ان شكل موقع مصر كحارس للبوابة الشمالية الشرقية للقارة الافريقية وما يعنينه ذلك الموقع من عمق استراتيجي لمصر داخل القارة جزءا من هويتها وتاريخها بالاضافة الي اهمية نهر النيل عماد الحياة والنماء للبلاد ،ومن هنا فان لموقع مصر تاثير علي نشاتها وتطورها ومفاهيمها وبتتبع العلاقات المصرية الافريقية في نصف القرن الماضي نجد ان العلاقات المصرية الافريقية تعاني من التقلب وعدم الثبات ولكن الدائرة المصرية تظل دائما تعلب دور مهم في سياسة مصر الخارجية وذلك لتعدد مصالح مصر بالقارة الافريقية وانها جزء اصيل منها ولكن يختلف الاهتمام بها من فترة لاخري حيث نجد التاكيد والاهتمام بالقارة في فترة الرئيس جمال عبد الناصر.
لم تكن مصر قبل اندلاع ثورة يوليو تمتلك اي منظور شامل للقارة الافريقية كقارة متكاملة علي الرغم من وجود بعض الاشارات وبعض الافكار لدي المفكرين المثقفين في افريقيا باعتبارها وحدة جغرافية ،لقد انحصرت صورة افريقيا في المنظور المصري علي وحدة وادي النيل ، وعلي الاكثر بعض من اجزاء حوض النيل والقرن الافريقي ( مصر ، السودان ، اوغندا ، اثيوبيا ، اريتريا ، الصومال )بحكم الاهتمام التاريخي بهذه المناطق ، ولكونها في حوض النيل او البحر الاحمر .
ومع بداية تذايد الدور المصري بعد قيام ثورة يوليو علي الجانبين العربي والافريقي لاح قدر ظاهري من التعارض والتباين بين الانتمائين ، كما بدا ذلك بداية الوحدة المصرية السورية ،وتاسيس الجمهورية العربية المتحده في فبراير ١٩٥٨ والتي جاءت في اطار رفض مصر ان تكون جزءا من الشرق الاوسط واحلافه المرتبطه بالاستراتيجية الغربية ، فقد اخذ الافارقة ينظرون الي مصر وكانها بلد عربي لاتنتمي الي افريقيا الا موقعا وعلي سبيل المثال حينما سافر وفد الجمهورية العربية المتحده الي اكرا ( عاصمة غانا )عام ١٩٥٨ لحضور مؤتمر الدول الافريقية المستقلة قال كوامي نكروما لوزير الخارجية المصري وقتئذ الدكتور محمود فوزي "ابلغ الرئيس عبد الناصر ان اسم مصر عزيز علي الافارقة ، وانه يرجو الايختفي هذا الاسم بعد ان اسم الجمهورية وانه لا يتصور افريقيا بدون مصر " ولم يقتصر الامر علي ذلك بل حاولت بعض الوفود الافريقية في مؤتمر اديس ابابا ١٩٦٣ (نيجيريا واثيوبيا )ان تعترض علي ادخال اللغه العربية ضمن لغات العمل الرسمية في اطار منظمة الوحده الافريقية وتصدي لهم الرئيس الغيني سيكوتوري كما اثيرت هذه القضية مرة اخري في احد الاجتماعات من قبل وفد السنغال ،حيث وجه حديثه للوفد المصري متسائلا ومستنكرا عما اذا كانت مصر تنتمي حقيقة الي افريقيا ، ام انتماؤها هو انتماء عربي.
اكد عبد الناصر انه لاسبيل لخلاص هذه القارة الافريقية التي مزقتها الاحقاد الاستعمارية سوي انتفاضة الافاراقة واستخلاص اراضيهم المغتصبة واسترداد حريتهم والاستقلال بخيرات بلادهم ، ولن ياتي ذلك الا بتشابك وبترابط جبهة الشعوب المكافحة ضد الاستعمار والقضاء علي.
وقف عبد الناصر مع كل الدول التي كانت تناضل من اجل التحرر ،والخروج من ربقة الاستعمار ، وكان ذلك ايمانا منه بوحدة النضال في مواجهة الاستعمار الجديد ، الذي كان يريد الانتقاص من استقلال الدول الجديدة فقد كان عبد الناصر يشعر بمسؤليته الخاصة والجادة حيال الدول الافريقية حديثة الاستقلال فضلا عن التزامه بالتحرك في اطار سياسة عدم النحياز من افريقيا باعتباره احد اقطابها ، الامر الذي كان يفرض عليه مساعدة الدول الافريقية في معاركها للتحرك من السيطرة الاجنبية ومعاونتها بعد الاستقلال حتي تكون قادرة علي الوقوف في صف الدول غير المنحازة ، فقد كانت السمة المميزة لفترة عبد الناصر بعد قيام ثورة يوليو هي مساندة حركات التحرر الافريقية واشعال فتيل ثوراتها ومناهضة الاستعمار ومحاصرته ، وتفجير روح الاستقلال وحق تقرير المصير في القارة الافريقية وقد تنوعت هذه المساعدات علي عدة محاور منها المحور الاعلامي والدعائي ومحور عسكري وتدريبي ومحور سياسي ويقوم علي اعلان حقوق الشعوب في المحافل الدولية.
وكان لدور الاذاعات الموجهة ،والتي وجهتها القاهرة الي الشعوب الافريقية الثائرة من اجل الاستقلال ولشد ازرها ،وامدادها بالبيانات ، ومايلزم من اذكاء واستمرار حتي النصر وكانت هذه الاذاعات تقوم بدورها كالاذاعة الموجهة بلغة السواحيلي وقد بدات ارسالها في يوليو عام ١٩٥٨ م لمساندة نضال شعب كينيا وغيره من شعوب شرق افريقيا بالذات ضد الاستعمار ، والاذاعة الموجهة باللغة الامهرية في ١٩٥٥ وكذلك باللغة الصومالية الذي يكافح في ذلك الوقت في سبيل الوحدة والاستقلال ،والاذاعه الموجهه بالللغة الانجليزية لممساندة الشعوب الناطقة باللغة الانجليزية في شرق ووسط افريقيا في نضالها في سبيل الاستفلال، والاذعة الموجهه بلغة اللينجالا وبثت برامجها للمتحدثين بهذه اللغة في زائير والكونغو برازافيل وكذلك بلغات اخري مثل النيانجا في زامبيا ومالاوي وبغة السوتو في سوانا وسوازيلاند ولغة السندبيلي لشعب روديسيا (زيمبابوي ) والاذاعة الموجهة بلغة الزولو لشعب جنوب اافريقيا واللغة الجفرية للمتحدثين بها في جيبوتي والمناطق المحيطين بها. كانت صر اول دولة في العالم تقدم لحركات التحرر الافريقية الاسلحة لتبدا المقاومة المسلحة ضدد الوجود الاستعماري والعنصري ،ووفرت مصر لهذه الحركات التدريب العسكري المناسب في مدراس الصاعقة والكلية الحربية ، كما شاركت اجهزتها ( المخابرات العامة المصرية ) في ادخال وتوصيل الاسلحة في مناطق المقاومة وتامين وصول افراد المقاومة الي القاهرة للتدريب وعودتهم الي بلادهم ، واستمرت مصر في تحمل هذا العبء حتي عام ١٩٦٣ عندما انشئت جبهة التحرير الافريقية التابعة لمنظمة الوحده الافريقية من ٩ دول من بينها مصر ويلاحظ ان العمل العسكري كان موجها ضدد القوي الاستعمارية التي لم تكن مستعدة لتطوير الحكم في الاقاليم التي تحتلها باعطائها الحكم الذاتي واعدادها للاستقلال مثلما كان الحال في روديسيا والمستعمرات البرتغالية بعد اعلان النظام العنصري هناك الاستقلال من جانب واحد ، وكانت مصر تقدم مساعدتها لجمبع حركات التحرر مهما كان لومنها او اتجاهها السياسي طالما هي موجهه ضدد الاستعمار وكانت المساعدات تقدم في كثير من الاحيان لاكثر من حركة داخل الدولة الواحده فعلي سبيل المثال في اقليم انغولا قبل الاستقلال كانت مصر تقدم المساعدات "للحركة الشعبية لتحرير انغولا "وفي الوقت نفسه تقدم المساعده الي " الحكومة الثورية لانغولا في المنفي " وبذلك احتفظت القاهرة بعلاقات طيبة بجميع القوي الوطنية في افريقيا دون اي تدخل لفرض اشخاص اوضاع او نظام معين ، وبذلك بقي هدف هذه المساعدات واضحا في كل الاوقات والظروف وهو انهاء الاستعمار.
وتبنت مصر منذ قيام الثورة قضايا التحرر وتصفية الاستعماروتقرير المصير في الامم المتحدة، واعتبرت نفسها مسؤؤلة مسؤولية خاصة عن قضايا افريقيا بحكم صلتها الخاصة بحركات التحرر الافريقية ، كانت ولفترة طويلة اقدر الدول علي عرض قضايا القارة ، وكانت مصر اثناء دورة الامم المتحدة كل عام ، تدعو ممثلي حركات التحرر الافريقية الي نيويورك علي نفقتها حتي تتمكن هذه الحركات من الدعوة لقضاياها سواء لدي الوفود المختلفة او بالظهور امام اللجنة الرابعة ( لجنة الوصاية ) كمقدمي عرائض مع تقديم المساعدات الفنية والقانونية لهؤلاء الممثلين ، وقد استطاع ان يكون عبد الناصر جبهة عالمية قوية للدفاع عن قضايا التحرر من خلال حركته الواسعه مع دول المعسكر الشرقي وفي العالم الثالث بدءا من مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥ الي حركة عدم الانحياز ، وبمجرد استقلال غانا وغينيا ومالي وظهور الزعامات الافريقية الكبيرة ( نكروما ، سيكوتوري ، ومودوبوكيتا ) كان من الطبيعي ان يحدث الالتقاء مع عبد الناصر ومن خلال مواقف هذه الدول في تاييد لومومبا والثورة الكونغولية في مواجهة مؤامرات بلجيكا تكونت اول جبهة افريقية من الدول الافريقية التقدمية عندما قام ميثاق الدار البيضاء بين كلا من مصر وغانا وغينيا والمغرب ومالي وجبهة التحرير الجزائرية واعلنت هذه الدول في ميثاقها " التصميم علي التحرير للاراضي الافريقية التي مازالت تحت السيطرة الاجنبية " وذلك باعطائها يد العون والمساعدة، واهتمت مصر ايضا باالمؤتمرات الشعبية مثل مؤتمر كل الشعوب الافريقية الذي عقد في القاهرة ١٩٦١ ومؤتمرات التضامن الافريقي الاسيوي التي اتخذت القاهرة مقرا لها.
كما وقفت مصر في مواجهة في مواجهة الاستعمار الجديد والنظم العميلة والحركات الانفصالية ، فقد تصور عودة الاستعمار بطرق اخري من الافكار التي تؤرق القيادة المصرية ، كما كان يؤرق قيادات كثيرة في القارة الافريقية انذاك ، كما كانت معاهدات الدفاع التي عقدت مع البلاد التي استقلت ، او الاحتكارات الاجنبية التي تتحكم في مقدرات البلاد او زرع النظم العميلة الي غير ذلك من قبيل النشاط والتغلغل السرائيلي في القارة والتي قاومته مصر فقد ساعدت مصر زامبيا بعد استقلالها في محولتها لتاميم شركة النحاس ، كما ساعدت الصومال في تعرضة من جانب الضغط الايطالي وذلك لضغط الشركات الايطالية التي كانت تحتكر شراء وتوزيع الموز الصومالي وقدمت مصر قروض لغينيا نظرا لضغط فرنسا عليها لاسقاط حكومة سيكوتوري فضلا عن مساعدتها لبعض الدول الافريقية المستقلة كي لا تلجا لطلب المعونات العسكرية الاجنبية وخاصة من اسرائيل ومن تلك الدول مالي وكينيا والصومال ، كما وقفت مصر بجانب الحكومات المركزية الوطنية الافريقية ضد المحاولات الانفصالية سواء نيجيريا ابان الحرب الاهلية في بيافرااو في الكونغو كينشاسا ضد انفصال كاتنجا شابا ،بالاضافة الي السودان ضد كل المحاولات الانفصالية من قبل بعض القوي والاحزاب الجنوبية المدعومة من الخارج ، كما ساندت مصر الغلبية الافريقية ضد نظم حكم الاقلية البيضاء سواء في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا) عن طريق دعم حركات التحرر فيها ضدد حكومة سميث وبالنسبة لجنوب افريقيا وقفت مصر ضدد سياسات التمييز العنصري وسياسة الابارتهيد التي كانت تتبعها الحكومة البيضاء ونري ان مصر قطعت علاقتها في سبيل ذلك مع حكومة جنوب افريقيا العنصرية ١٩٦١ وشاركت مع ٢٧ دولة في عرض قضية الابارتهيد في مجلس الامن للمرة الاولي في ١٩٦٢ مما ادي في النهاية الي اعتبار سياسة الابارتهيد سياسة تهدد السلم والامن الدوليين ، ولم تعترف مصر بالكيانات الصطناعية التي اقامتها جنوب افريقيا والمعروفة باسم البانتوستنات كاقليم ترانسكاي وقد استمرت مصر علي هذا النحو حتي استقرت الاوضاع وتغيرت بعد انتهاء الحرب الباردة ونجد في هذه الفترة ان مصر احدي القوي السياسية الفاعلة في افريقيا والمستعدة دائما لمواجهة اي تدخل اجنبي تتعرض له القارة.
المصادر
١. د.محمود ابو العينين ،"الدور الاقليمي المصري في افريقيا منذ ثورة يوليو١٩٥٢ بين الاستمرارية والتغيير "السياسة الدولية ، ( القاهرة :مؤسسة الاهرام ،ع١٤٩ ،يوليو ٢٠٠٢)
٢. د.عادل غنيم ،جمال عبد الناصر وعصره ،( القاهرة :دار المعارف ، ٢٠١٢)
٣. نجاح العشري ،عبد الناصر وحركات التحرر العربي والافريقي فهم جديد لدور قائد ثورة يوليو في اشعال فتيل ثورات العرب والقارة السوداء ،(القاهرة :مكتبة جزيرة الورد ،٢٠١١ )
٤. حمد محمد فايق " ثورة ٢٣ يوليو وافريقيا " مركز درسات الوحدة العربية ، (بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية – منتدي الفكر العربي ،ينلير ١٩٨٤ )
٥. د. أيمن السيد شبانة،" الدور المصري في أفــريقيـا الواقع الراهن وآليات التفعيل"، في د.نجلاء مكاوي (محرر) واقع وافاق علاقات مصر الاقليمية بعد ٢٥ يناير ،(القاهرة :مركز النيل للدراسات الاستراتيجية ، الطبعة الاولي ،٢٠١٢ )
٦. ﻋﻼﺀ ﻋﺒﺪﺍﻟﺤﻔﻴﻆ محمد ،" ﺍﻟﺪﻭﺭ ﺍﻟﻤﺼﺮﻱ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮ ﻓﻲ ﺍﻓﺮﻳﻘﻴﺎ : ﺍﻟﺜﻮﺍﺑﺖ ﻭ ﺍﻟﻤﺘﻐﻴﺮﺍﺕ"،بحث منشور في ﻣﺠﻠﺔ ﺍﻟﺒﺤﻮﺙ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﻳﺔ ﺍﻟﻤﻌﺎﺻﺮﺓ (ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺳﻮﻫﺎﺝ : ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ، ﻣﺞ ١٢, ﻉ ١، يونيو ٢٠٠٧ ).
٧. عبد المعطي ابوذيد ، واخرون ، مصر في افريقيا، ( القاهرة : الهيئة العامة للاستعلامات ، ٢٠١٩ )