الفيلق المصري .. جريمة اختطاف نصف مليون مصري

بقلم : عـمرو صـابح
يخوض د.محمد أبو الغار في كتابه " الفيلق المصري .. جريمة اختطاف نصف مليون مصري" رحلة بحثية شاقة للتنقيب عن المسكوت عنه في تاريخ مصر في القرن العشرين ، فيقدم بحث علمي تاريخي موثق بشهادات أجنبية ومصرية عن جريمة بشعة حاقت بالشعب المصري خلال سنوات الحرب العالمية الأولي ١٩١٤-١٩١٨.
احتلت بريطانيا مصر في عام ١٨٨٢ ، واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى في عام ١٩١٤ ، وفي أغسطس عام ١٩١٤ دخلت بريطانيا الحرب ضد ألمانيا ، قرر العثمانيون التحالف مع الألمان ، وفي ٥ نوفمبر ١٩١٤ دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب ضد بريطانيا، ومع اشتعال المعارك وخوفاً من انحياز المصريين للعثمانيين ، قررت بريطانيا فى ١٨ ديسمبر ١٩١٤ خلع الخديوي عباس حلمي الثاني الذي كان منحازاً للعثمانيين والألمان أعداء بريطانيا ، كما تم إعلان الحماية البريطانية على مصر وتعيين حسين كامل سلطاناً للبلاد ، وبررت الحكومة البريطانية ذلك باتهام الخديوي عباس حلمي الثاني بالانحياز لأعداء بريطانيا ، وأكدت أنها لن تطلب من المصريين أي مساعدة غير عدم إعاقة تحرك جيوشها على الأراضي المصرية.
لم تنفذ بريطانيا وعودها للمصريين بل بدأت منذ ١٥ نوفمبر١٩١٤ عملية نهب منظمة للمحاصيل الزراعية المصرية عبر إجبار الحكومة المصرية على شراء الحبوب والدريس من الفلاحين بثمن بخس لصالح الجيش البريطاني في مصر ، كما استولى البريطانيون على تبرعات المصريين لجمعية الهلال الأحمر وكانت تبلغ ١١٢٥٣٤ جنيه وهو مبلغ هائل بمقاييس عام ١٩١٤ ، وعندما وجد قادة الجيش البريطاني أن السيارات لا تستطيع السير في صحراء سيناء قرروا تشكيل سلاح الجمال واستخدامه كوسيلة نقل في الصحراء ، وقد جرى ذلك بالاستيلاء على جمال المصريين بالإكراه ، وبسرقة بريطانيا للجمال المصرية قامت بتأسيس أكبر حملة حربية من الجمال في تاريخ الحروب ، ثم امتدت يد البريطانيين لسرقة مواشي المصريين أيضاً.
- فى نهاية عام ١٩١٥ كان المصريون يعانون من ويلات الحرب فقد جرى سرقة محاصيلهم الغذائية لصالح الجيش البريطاني ، كما أن الواردات من الخارج توقفت بسبب الغواصات الألمانية في البحر المتوسط التى فرضت ما يشبه الحصار البحري على المواني المصرية ، كما أن استيلاء البريطانيين على المواشي المصرية والجمال والحمير جعل الناس لا يجدون ما يقتاتون به ، وأصبحت البلاد على شفا المجاعة.
- أدى تعقد موقف بريطانيا في الحرب العالمية الأولى إلى احتياجها لأيدي عاملة لخدمة جيوشها ، كانت فرنسا قد جلبت أعداد ضخمة من الشباب من مستعمراتها للعمل في خدمة الجيوش الفرنسية في الحرب ، وهنا قرر سيء الذكرى لورد بلفور وزير خارجية بريطانيا وصاحب وعد بلفور المشئوم ، تطبيق الفكرة الفرنسية لصالح الجيش البريطاني عبر تجنيد الشباب المصري لخدمة الجيوش البريطانية ، فأرسل برقية للمندوب السامي البريطاني بمصر يطالبه بتشكيل فيلق من شباب الفلاحين المصريين لخدمة بريطانيا.
بدأ تكوين الفيلق المصري بحملة دعائية عن مزايا الالتحاق بالفيلق ، وقامت الأبواق الإعلامية العميلة لبريطانيا مثل جريدة المقطم تدعو المصريين لمساندة بريطانيا العظمى المدافعة عن الحضارة والتمتع بمزايا عينية ونقدية للشباب الذي سيتطوع في الفيلق ، كما كتب أحمد فتحي زغلول شقيق الزعيم سعد زغلول داعياً المصريين لمساندة الإنجليز لأن الأنجلو ساكسون عماد الشعب البريطاني هم أرقى أجناس العالم ويجب أن تطيعهم بقية الأجناس!!
رغم ذلك كان عدد المتطوعين للخدمة في الفيلق قليل مما دعا لورد بلفور وزير خارجية بريطانيا أن يرسل للحكومة المصرية برئاسة حسين رشدي باشا يندد بموقفها غير الداعم لبريطانيا ومطالباً إياها بضم شباب الفلاحين المصريين للعمل في الفيلق طوعاً أو كرهاً ، وللأسف انصاعت الحكومة المصرية لتهديدات بلفور وبدأت حملة قمعية ضخمة بمساعدة مديري المديريات (المحافظين الآن) و العمد والأعيان والخفراء وضباط الشرطة والعساكر لخطف الشباب من الأسواق ومن الطرقات ومن بيوتهم على امتداد قرى مصر حيث تم ربطهم بالحبال وجرهم في الطرق مكبلين بالأصفاد حتى أقسام الشرطة ،وهناك يتم إجبارهم على ختم طلبات إلحاقهم بالفيلق ، ومن يرفض يتم ضربه بالسياط حتى يختم ، نجحت الحملة في جمع نصف مليون مصري حسب تقدير د.محمد أبو الغار ، كان تعداد المصريين وقتها يبلغ ١٢ مليون نسمة ، و استطاعت بريطانيا بالعنف والإجبار في تجنيد ٤٪ من المصريين وهي نسبة مهولة خاصة أنهم من الشباب والقوى العاملة في الزراعة.
تقدير المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي يصل بعدد الشباب في الفيلق المصري إلى مليون شاب مما يرفع نسبتهم لعدد سكان إلى ٨٪ من تعداد الشعب المصري وقتها.
بعد تجميع الشباب المصري يتم شحنهم في القطارات المخصصة للحيوانات ، ويعاملون معاملة غير أدمية حتى يصلوا لأماكن تجمع القوات البريطانية حيث يتم توزيعهم على وحدات الجيش البريطاني ، وفي الوحدات يتسلم كل شاب زي كاكي مماثل لزي الجيش البريطاني ولكنه لا يتسلم حذاء ، فقد كان الحفاء المستشري في مصر سبباً في عدم وجود أحذية تناسب أقدام الشباب المصري المختطف بل أن البريطانيين لاحظوا أن كعوب أقدام المصريين أشد خشونة من نعال الأحذية بسبب الحفاء!! لم يتم تسليم أسلحة لشباب الفيلق المصري ، فالغرض البريطاني من تجنيدهم القسري كان العمل في خدمة الجيش البريطاني وليس القتال.
تم إرسال شباب الفيلق المصري مع الجيوش البريطانية التى تقاتل في سيناء وفلسطين والشام والعراق وفرنسا ، وفي صحراء سيناء وصحراء النقب كان محرماً عليهم ركوب الجمال ومن يخالف ذلك كان يتم جلده بالسياط ، ومن يتمرد كان يجري ضربه بالنار بدون محاكمة ، وبعد أن قرر البريطانيون مد خط السكك الحديدية بسيناء لربطها بخط السكك الحديدية بفلسطين تم تكليف شباب الفيلق المصري بهذا العمل الشاق في ظروف بالغة الصعوبة ، كما تم تكليفهم بشق ترعة لتوصيل المياه عبر سيناء إلى فلسطين فى أجواء عبودية لا تختلف عما حدث خلال عملية حفر قناة السويس بالسخرة في القرن التاسع عشر، وفي فرنسا تم تكليفهم بتفريغ السفن وحفر الخنادق وحمل الأغذية والمعدات من الخطوط الخلفية للقوات المحاربة ، وقد قامت الطائرات الألمانية بقصف المواقع التى يعمل بها شباب الفيلق المصري بدنكرك في فرنسا وتسببت في مقتل العشرات منهم وجرح المئات ، كما أرسلت بريطانية ثلاثة ألاف فلاح مصري للعمل في خدمة القوات البريطانية فى معركة جاليبولي الشهيرة ضد الجيش العثماني ، وأرسلت ٨ ألاف شاب مصري لخدمة القوات البريطانية التى تحارب ضد العثمانيين في العراق ، كما تم إرسال ألفين من شباب الفيلق المصري لخدمة جيوش الحلفاء في إيطاليا ، وتم إرسال ألف شاب مصري للخدمة في بلجيكا.
عند تكوين الفيلق المصري وعد البريطانيون الحكومة المصرية بوعدين ، الأول هو أن تكون مدة تجنيد الشباب المصري بالفيلق محدودة ، والثاني أن تدفع بريطانيا للحكومة المصرية تكاليف تكوين الفيلق ورواتب الشباب المصري ، وطلبت من الحكومة المصرية فتح حساب معلق لصالح الفيلق تضع فيه الحكومة المصرية تكاليف تمويل الفيلق المصري وأجور الشباب المصري على أن تقوم الحكومة البريطانية بتسديد هذه التكاليف بعد نهاية الحرب، ولكن كالعادة حنث البريطانيون بالوعدين ، فقد أصبحت مدة التجنيد مفتوحة ومن يحاول الهرب من العمل في الفيلق كان يتم قتله ، كما أن الحكومة البريطانية ضغطت على الحكومة المصرية المتخاذلة برئاسة حسين رشدي باشا للتنازل عن تكاليف تكوين الفيلق المصري وأجور المجندين والتى قدرت بما يزيد عن ثلاثة ملايين جنيه إسترليني بأسعار هذا الزمان لصالح بريطانيا نظير دفاعها عن مصر فى الحرب!!
رغم الخدمات الجليلة التى قدمها شباب الفيلق المصري لبريطانيا في الحرب ، كان تعامل قادة وضباط الجيش البريطاني مع المصريين بالغ السوء وشديد العنصرية ، فالفيلق المصري يتم تسميته بفيلق الملونين ، والمصريون من وجهة نظر البريطانيين جنس أدنى من الجنس البريطاني ، وبلغت الخسة بالضباط البريطانيين أن يستخدموا الشباب المصري في تنظيف حقول الألغام بدون إبلاغهم أنهم في حقل ألغام مما أدى لمقتل المئات من المصريين ، والأطباء البريطانيين يعالجون البريطانيون والأستراليون فقط بينما المصريون لا يتم الاهتمام بعلاجهم ، ولم يراع البريطانيون تقلبات الطقس في أوروبا واختلافه عن الطقس في مصر ، وتركوا الشباب المصري يموت من البرد والصقيع ، وعقوبات الجلد بالسياط والضرب المبرح بل القتل المباشر لمن يتمرد تتم بدون حسيب أو رقيب.
في ظل هذه الأجواء المرعبة التى يعاني منها شباب الفيلق المصري ، كانت الصحافة البريطانية تسرد الأكاذيب عن حسن معاملة بريطانيا للمصريين فى الفيلق ، وكانت الحكومة المصرية والصحافة المصرية الموالية لبريطانيا ترددان نفس الأكاذيب.
لم يهتم البريطانيون بشهداء الفيلق المصري فلا توجد أرقام موثقة عن عدد القتلى ، وإن كان د.محمد أبو الغار يرجح أنهم يزيدون عن ٥٠ ألف شهيد مصري ، فضلاً عن ضعف هذا العدد من الجرحى ، بنهاية الحرب بدأت عودة شباب الفيلق المصري لقراهم ، وقد عادوا محملين بالغضب وبذور الثورة ضد الأعيان والعمد والمشايخ ممثلي الحكومة المصرية التى باعتهم لبريطانيا ، كما عادوا ساخطين ضد جيش الاحتلال البريطاني ، وبعودتهم شهدت البلاد جرائم دموية لم تشهدها من قبل بعد تجربة الحرب الدموية القاسية التى عاشها هؤلاء الشباب.
يربط د.محمد أبو الغار بين ثورة ١٩١٩ والتى انفجرت في شهر مارس عام ١٩١٩ وبين ما حدث لأكثر من نصف مليون شاب مصري تم خطفهم وتجنيدهم بالسخرة لخدمة بريطانيا ، فالثورة بدأت في نهاية عام ١٩١٨ مع عودة شباب الفيلق المصري فقد شهد الريف المصري فى الوجه البحري والصعيد حوادث تمرد وعنف ضد السلطة ، وجاءت شرارة الانفجار بالقبض على سعد زغلول وصحبه ونفيهم.
عمليات قطع خطوط السكك الحديدية والتلغراف والتليفون ومهاجمة أقسام الشرطة ومساكن العمد والأعيان قادها شباب من الفيلق المصري الذين عادوا لينتقموا ممن أذلوهم وقتلوا رفاقهم وأجاعوا أهاليهم.
حاربت بريطانيا بأكثر من نصف مليون شاب مصري ، ودفعت الحكومة المصرية تكلفة مشاركة مصر في الحرب العالمية الأولى ، ولم تعوض بريطانيا أهالي أكثر من ٥٠ ألف شاب مصري عن وفاة أبناءهم في معركة لا تخصهم ، كما أن نزع هذه الثروة البشرية الهائلة من قرى مصر على امتداد مساحتها تسبب فى مجاعة كبرى خلال سنوات الحرب وانتشار للأوبئة ، وفي النهاية تنكر ساسة بريطانيا لما قدمته مصر ورفضوا منحها الاستقلال في ظل تواطؤ من السلطان حسين كامل وخلفه أحمد فؤاد لتضحيات المصريين.
يمثل هذا الكتاب وثيقة بالغة الأهمية كاشفة لصفحة سوداء من تاريخ احتلال بريطانيا لمصر ، ويدين الكتاب ساسة هذا العهد الكئيب بالأدلة ، كما أنه يمثل رد دامغ على أكاذيب مزوري التاريخ من شماشرجية العصر الذين يزيفون الحقائق ويتغنون بأمجاد كاذبة ينسبوها لحكام أسرة محمد علي.