رغم ان " محمود ممدانى" استاذ للعلوم السياسية، واقرب الي ان تجرى تحليلاته معلقا على الحدث السياسى القائم، كما تصور ذلك عناوين انتاجه الكبير فى الدراسات الأفريقية، إلا أنه فى الحقيقة لابد ان يُقرأ ايضا كاستاذ فى التراث الاجتماعى والشعبى الأفريقي.. هكذا تؤدى عناوينه منذ كتب عن أسطورة تحديد النسل، والتشكيل الطبقى فى بلاده اوغندا، الى ان كتب عن "المسلم الصالح والمسلم الطالح ، وعن "الصراع حول دار فور" وحرر عن" الحركات الاجتماعية فى افريقيا" ، وحتى كتابته عن "المواطن والرعية" .......
وتشاء الظروف أن تربط بيننى وبين "محمود ممدانى" فى اكثر من مجال بل وفى اكثر من مكان. فقد زاملته فى اطار الجمعية الافريقية للعلوم السياسية منذ عام ١٩٧٦م، وكان مدرسا شابا فى جامعة دار السلام بتنزانيا وانا مساعد امين عام الجمعية الافريقية بالقاهرة، ثم التقينا وهو احد قيادات الثورة التى اكتسحت نظام "عيدى امين"اواخر السبعينيات، وحتى تزاملنا فى المجلس الافريقى للبحوث الاجتماعية (كوديسريا) منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وهو استاذ كبير فى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة وفى نفس الوقتت مدير مركز الدراسات الاجتماعية فى جامعة "كاريرى" بأوغندا. وقد تكون هذه العلاقة هى التى جعلتنى فى القاهرة قريب من معارفه المدققة التى اعرف انها تتوفر لدى "محمود ممدانى" عن قضايا عديدة فى افريقيا شغلته فى إطارها المتخصص ، لكن وضع العالم العربى فيها جعلها اطارا عاما للاحاطة بمشكلات تبدو عربية خالصة.... ولناخذ على سبيل المثال كتابته عن "العالم الاسلامى" حين اندفع الى عالم الحرب فى أفغانستان، أو عالم الإرهاب وفوبيا "الاسلاموفوبيا" فى الغرب: او كتابته عن حملة سوء الفهم لما حدث فى دارفور من تصويرها القاسى كعدوان "عرب" السودان على أفريقييهم، وهجمية "الجنجويد"، والهوة الساحقة بين العرب والافارقة فى هذه البقعة من العالم. ثم كان اشرافه على تحرير كتاب "الحركات الاجتماعية.... "الذى قاد فيه فريقا من افضل الباحثين ليقدموا دراسات حالة معمقة لرؤية مجتمعية شاملة فى حوالى سبعة عشر دراسة من انحاء افريقيا متضمنة حالة الجزائر وتونس والسودان...
ويعطى "محمود ممدانى" لمصر دائما مكانتها فى تفكيره، منذ تحدث عن الحركات الاسلامية فى كتاب "المسلم الصالح... .."ودور نظام السادات مع الغرب" الى ان جاء بنفسه الى مصر فى منتصف ٢٠١١ "ليزور" ميدان التحرير، ويكتب عن مثال "ثورة سويتو" فى جنوب افريقيا ١٩٧٦، واثره فى الوعى القارى كما يفعل مثال ميدانن التحرير... وهو فى ألمه علي ما جرى لثورة ٢٠١١، يحذر ان يصل العنف فى معالجة الموقف عام ٢٠١٣ الى ما يشبه ما حدث من سيل للدماء فى رواندا ومجزرتها عام ١٩٩٤، وهو التشبيهه الذى أغضبنا أو قل آلمنا فى القاهرة، ولكن المرارة قد شملت الكثيرين ازاء هذا الذي حدث فى بلادنا ولم ينفرد به "ممدانى".!..
أذكر اننا عندما انتهينا من نشر العمل الكبير عن الحركات الاجتماعية فى افريقيا والوطن العربى عبر المجلس القومى للترجمة، واعقبه كتاب "المسلم الصالح..." والذى شرفت بمراجعة وتقديمها، ان همس لى "محمود ممدانى" بأنه اذ يشكر هذه الهيئة المصرية على تقديمه فى الثقافة العربية بهذه الاعمال، إلا أنه يتمنى من داخله ان يرى ترجمة كتاب المواطن والرعية Citizen and subject بوجه خاص مترجما الى العربية... ولم ادهش من جانبى لهذا الطلب، وحملته الى الجانب المصرى، بل وتقابل هو نفسه فى احد زياراته مع مسئولى المركز، ويسر هو الحصول على إذن الترجمة او حقوق الملكية الفكرية، ليتخذ الكتاب طريقه للترجمة والنشر، بجهد مشكور- بل وخارق- للدكتور صلاح أبونار الذى لم يكن احد غيره فى تقديرى بقادر على الانتهاء من هذا العمل إلا بمشقة، ووقت كاف...
لكن يبقى السؤال عن سبب اعتزاز "ممدانى" بهذا الكتاب، وحرصه على الانتقال به الى ثقافة يبدي اعتزازه بها ايضا كالثقافة العربية. فى تقديرى ان الكتاب وهو عمل رصين ومكثف يطرح فى الساحة العلمية، مساهمة افريقية جادة فى مجال "السوسيولوجيا السياسية" عن اصل الدولة الحديثة "فى افريقيا . ويعرف "ممدانى" ان "اصل الدولة" هو الموضوع الذى شغل الفكر الانسانى منذ ازمنه طويلة، ومنذ شغلت بها الفلسفة اليونانية والاسلامية سواء فى "جمهورية افلاطون" و حتى "عصبية ابن خلدون"... ويعرف "محمود ممدانى" ان معظم فلاسفة الغرب وخاصة الانثروبولوجيين سارعوا بوصف المجتمع الافريقى خاصة بانه "مجتمع اللاودلة" "واللاتاريخ " وانه اكتشف "التنظيم الدولتى" عن طريق الاستعمار وحده ازاء ثبات نمط "التغييب" الافريقى للدولة.
يدخل "محمود ممدانى" فى جدل "الدولة الافريقية" بمساهمته العلمية الهامة على طول هذا الكتاب بما يصعب تلخيصه فى سطور.. ولكنى أنبه هنا الى جوهر ما شغلنى فيه، ولا اريد ان احكم بانه جوهر الكتاب فهذا شأن المؤلف نفسه او قراءته بالامعان الواجب.
ذلك انى اعرف مدى ملاحقة "ممدانى" "لدولة الاستقلال الوطنى"، وقلقه الدائم من مصادر الاستبداد فيها، بسبب ان الدولتيه" التى دعمتها حركة "الاستقلال" من جهة، وظروفها الصعبة، ووجود "تنويعات" الزعامات التى قدمتهم هذه الحركة من جهة اخر، قد اضفت على "الدولة" من القداسات واحدثت من الانهيارات الكثيرة، ما جعلها موضع القلق بهذا الشكل. من هنا يعتبر جوهر رسالة "ممدانى" من خلال الكتاب، هو البحث ليس فقط حول "تاصيل الدولة" فى القارة الافريقية مثلما تم على المستوى الاوروبى والعربى، وانما ايضا البحث فى مصادر الاستبداد فى هذه المنطقة الافريقية...
واذا عدنا مع "ممدانى" الى سؤال اصل الدولة .. نجده يسأل بالتالى عن مدى ارتباط هذا الاصل بالنسبة "لبنية الاستقلال" اي في تراث الادارة الاستعمارية من حكم ممباشر او غير مباشر، اى المركزية او اللاامركزية، او في حركة "المقاومة او التحرير الوطنية.".. ونجد "ممدانى" يربط ذلك ايضا بما يجعله خلاصة متكررة عن الفرق بين وجود هذه الادارة الاستعمارية كقوة "ترييف" وقبلية، او قوة "تحضير" وتبعية، وهو ما يشبه التفرقة بين العرقية (القبليه)، والعنصرية(الحضريه).. بين جماعة الحضر وجماعة الريف... وهنا يفرد "ممدانى"جزءا كبيرا من الكتاب- لا اريد تلخيصه- لدراسة حالة التفرقة العنصرية، وما يسميه صراحة نموذج الابارتهيد، لا كنموذج استبدادى استثنائى، بل كنموذج ممكن التكرار في دولة الاستقلال الوطنى نفسها. وهو يقدم في دراسة ممتعة مفاجاة البحث عن نفي هذا "الاستثناء" عن دولة "الاستقلال الوطنى"... والاخطر هنا هو وضوح تعريفه اذن لمسمى "المواطن Citizen ومسمى الرعية Subject وهو لا يعتبره فقط نتاج حالة النظام العنصرى التقليدى، ولكنه "نظام ممكن" طول الوقت فى حالة "دولة الاستقلال" عندما نستسلم لنمط ميراث الاستعمار فى ادراتها بزعم تكوين الدولة الحديثة... مصدر الاستبداد الذى يقلق ممدانى، ويقلقنا جميعا!
ويلاحق "محمود ممدانى" فى فصول متتابعه (لا املك هنا ترقيما منضبطا للصفحات لأورد موقعها) مسئوليات الزعامات او الطبقة السياسية الممثله في الطبقة الوسطى، بل ويلاحق "الثقاافة الاهلية" التى نسميها التقليدية، ويبحث فى اصول القبلية والعرقية، ويكاد يتهم دعاوى التحديث التى تبثها فئات معينة تدعى الحضرية، واذ بها تخلق من ذلك "حالة المواطن" وتعزل "الرعية" فيما يشبه التسليم بحاله الابارتهيد فى تلك الدولة الحديثة المستقلة، التى لم تنشئهها حركة التحرير وانما الادارة الاستعمارية! بل ويكشف ممدانى فى تفاصيل هامة كيف اعتمدت هذه الادارة الاستعمارية نفسها على دفع مصادر الاستبداد فى الثقافات المحلية، ملقيا الضوء على السياسة البريطانية من خلال "الحكم غير المباشر" او استغلال الادارة الفرنسية لتحويل "الجهادية الاسلامية" الى حالة الاستيعاب الكامل... وخلال كل هذه العملية، لا تنشغل الادارة الاستعمارية او "ممدانى" نفسه بمجرد ادارة السياسة المحلية ، بل يناقش ممدانى فى اكثر من موقع كيف جرى تفعيل الاليات الاقتصادية، والادماج فى :السوق" السلعى والتبادلى لربط الممجتمعات الافريقية بالسوق الرأسمالي الاستعمارى...
وسوف يلاحظ القارئ، كيف ينكر "محمود ممدانى"أحيانا استبداد نظريات الاقتصاد السياسى، والتحليلات المادية الجدلية احيانا لكن القارئ يفاجأ فى تناول ممدانى استعانة مباشرة بهذه المناهج فى مدركاته الهامة حول دور "السوق" فى السيطرة على الريف والحضرة.. القبلى والعرقى على السواء فى اكثر من موقع.. وقد ارجعت ذلك الى اهتمام "ممدانى" الاكبر "باالبعد السياسى" بسبب ولعه بالبحث فى مصادر الاستبداد، وتنقيبه عن ذلك فى التراث السياسى الاجتماعى والادارة والتى يبلغ تكرار حديثه عن مركزيتها واللامركزية حد الارهاق للقارئ احيانا.. من هنا ايضا اهتمامه بالمرجعيية الثقافية، ويأتى رده النقدي على "النص التنموى"، كما يأتى اهتمامه الفائق بالحركة الفلاحية كمصدر رئيسى للتحرر والتسييس" فى حالات اوغندا والكونغو وجنوب افريقيا.. الخ.
فى هذا الاطار القلق على الديمقراطية وعملية المقرطة، ومخاوف "ممدانى" من التوجهات الخاصة فى "الدولتيه" المحدثة، يقدم نقدا متناثرا فى انحاء دراسته لحالة "الدولة الراديكالية"، وسوء استغلال فلسفة الحزب الواحد، كاحد مواريث الادارة الاستعمارية وليس لمجرد حكم "الوحدة الوطنية"، بل انه يصل لوسم الاحزاب السياسية وفشلها، بفشل الطبقة الحديثة فى الادارة متجاهلة "الريف" والحركة الفلاحية، وهو احيانا يجد فى مسعى الرئيس موسيفينى وغيره من الحركات التى التزمت بالتحرك مع الفلاحين مثالا يقترب من انجاز الديمقراطية عن امثلة الحزب او الاحزاب فى مناطق اخرى...
هذه المسألة تحتاج لمتابعة دقيقة عند "ممدانى" لا تكفيها هذه السطور حتى لا اظلم الرجل، لانها تحتاج الى قراءته بعناية هنا، وكذا قراءته فى الكتاب التى حرره وترجمناه عن الحركات الاجتماعية، بمقدمته الهامة وخاتمته الاهم، عن المستغرقين وقراءتهم الضالة احيانا للمجتمع الافريقى!
"محمود ممدانى"، فى جهده هذا، عندما يتحفظ على سلوك الدولة والدولتيه انما يمتد تحفظه احيانا الي افكار "المجتمع المدنى" الساذجة ايضا، والتى تعتبر عند البعض بدائل للدولة. ومن ينظر الى جهده فى هذا الكتاب، فسوف يكتشف انه يرد على ذلك كله بانه يبحث عن بديل داخل المجتممع نفسه الى حد نظرته "للفلاحين الاحرار" كمصدر لمعرفة ادق بحركة المجتمع. وهو يرى ان منظرين يساريين ومحدثين يقعون في معالجات مربكه بخلط مفاهيم "الحركات الاجتماعية" بجديد المجتمع المدنى او لتجاوز الحياة السياسية، بينما يحاول هوتجنب ذلك لانه - كما قلنا- مهتم بالبحث الاجتماعى في التراث، ومن هنا لم نضع مساهمته فقط فى اطار العلوم السياسية التى هو استاذها وانما فى اطار علم الاجتماع السياسي الذى يبحث فيها عن عناصر المقرطة او الاستبداد فى تراث "الجماعات الاجتماعية" او الادارة الاستعمارية الموروثة، مما لم يتح الفرصة لتراث المقاومة الوطنية ليوجه طريق التطور الصحيح.
ولذلك يبحث "ممدانى" طول الوقتت عن مصادر التفرقة السياسية بين "المواطن" والرعيه كمسئولية وطنيه محلية، رغم انه يعطى الكتاب عنوانا فرعيا يقول عنه "افريقيا المعاصرة وتراث الاستعمار الراحل".
ملاحظه اخيره ...وهي انه رغم اهتمام ممداني بالحاله المصريه ومعرفته بالعالم العربي ،فانه يظل مشاركا لكثير من كتاب القاره في تجاهل حالة مصر ضمن امثلته في مجال البحث ليخرج باستنتاجات اشمل...وهنا كانت حالة " الدوله التاريخية" المصريه ستؤثر كنموذج مختلف عن دولة الاستقلال الحديثه نسبيا في افريقيا.