ليست الحرية أوهاماً ينادى بها بلا وعى

ليست الحرية أوهاماً ينادى بها بلا وعى

مواطنى الأعزاء.. يا رجال منيا القمح:

إننا بينكم نشعر شعوراً عميقاً بالمسئولية الملقاة على عاتقكم بالنسبة للوطن، فأنتم رجال الخط الأول، أنتم الذين تجاورون منطقة الاحتلال، هذه المنطقة التى نسعى جميعاً لتحريرها والقضاء بكل وسيلة على أعدائنا فيها، فإذا اعتبر هؤلاء الإنجليز أن منطقة القناة قاعدة للدفاع عن أطماعهم، فإننا نعتبر إقليم الشرقية قاعدة لمصر سوف نقفز منها - فى وقت قريب - لنطهر البلاد من رجس الاحتلال.

إخوانى:

إن مسئوليتكم كبيرة وواجبكم أكبر، وأنتم كما قلت رجال الخط الأول فى الكفاح القريب؛ ولذا يجب أن تعملوا وأن تتعاونوا جميعاً على فهم رسالة التحرير.

ولا أريد أن تكون كلمتى بينكم اليوم خطبة منمقة ولا كلاماً مزخرفاً؛ وإنما أريد أن نتفاهم وأن نعرف جميعاً أين كنا، وأين نحن، وإلى أين المصير.

إننا نهتف دائماً بالحرية ونهتف بالعزة، وليست العزة كلاماً أو هتافاً، وليست الحرية أوهاماً ينادى بها بلا وعى، ولكن الحرية هى التحرر من العبودية ومن الخوف ومن الفزع أفراداً وجماعات. لقد عشنا سنين طويلة تحدثنا فيها طويلاً عن الحرية ولم نحقق منها شيئاً، فقد كانت الحرية وعوداً وكلاماً وصياحاً.

أما اليوم فإذا قلنا الحرية فنحن نعنى حرية القلوب وحرية النفوس وحرية العقول، وهى كلها فى التحرر من الخوف إلا من الله الذى خلق العالمين.

أطالبكم - أيها المواطنون - ألا تهتفوا بالحرية قبل أن تعملوا لها، ولا يكون العمل للحرية إلا بأن نغير طباعنا أولاً، تلك الطباع التى أورثتنا إياها عهود التهريج والخداع الذى كنا ننساق وراءه، وكنا نشترك فيه بتحريض من الزعماء، فليسوا هم وحدهم المسئولين، إننا نحن الذين مشينا فى ركاب التهريج، وسلمنا إليهم رقابنا وأرزاقنا، وكانوا يتصايحون أمامنا بالحرية، فنهتف معهم ونحن لا ندرى من أمرنا شيئاً.

أما اليوم ومنذ هبت رياح الحرية على مصر يوم ٢٣ يوليو، فقد انتهى زمان التهريج وزمان الدجل وزمان الصياح. اليوم ثارت مصر حقاً من أجل الحرية، وإن لم نحافظ على هذه الثورة ونجاهد من أجل بقائها حتى تؤتى ثمارها، فسوف تجدون بينكم أناساً يريدون أن ينحرفوا بها عن أهدافها، فمازال فى نفوسكم بقية باقية من آثار العهود الماضية، فنحن شعب طيب يعطى ثقته لكل مخادع أو مضلل. ونحن اليوم لا نريد منكم سوى العمل، والعمل وحده، وإنه ليتطلب كفاحاً وقوة فى القلوب والنفوس والأرواح.. الأرواح التى يجب أن تحس بإحساس المجموع، وتستطيع أن تكافح بقوة لتخلص بلادنا من آثار الأنانية التى تركت هذا الشعب جالساً عارياً فقيراً.

إننا إذا لم نطرح عن أنفسنا آثار الماضى البغيض ونخلق لأنفسنا تقاليد جديدة، ومجتمع قوى سليم يحقق أهداف الثورة بقوة وعزم، فلن نستطيع بلوغ الغاية من هذه الثورة، فإن ثورتكم لم يكن هدفها التخلص من ملك ولا أحزاب ولا من إقطاع؛ وإنما التخلص من آثار ذلك كله، أعنى من الاستبداد الذى استعبد مصر سنين طويلة، وذلك لن يتحقق فى شهر أو فى سنة أو فى سنوات، ولكن يمكن البدء فيه من الآن بالفعل وبالعمل معاً.

هذا العمل أن نعلم كيف بقى الإنجليز فى بلادنا هذه السنين الطويلة! إنهم كانوا متحالفين مع أبناء هذا البلد، فأخذ الساسة والرجعيون ثروة البلد، وأخذ المستعمر حرية البلد وكرامتها وعزتها.

إن ثورتكم - أيها المواطنون - ليست ثورة واحدة بل إنها عدة ثورات: ثورة اجتماعية، وثورة اقتصادية، وثورة تحريرية، وكلها تهدف إلى إعطاء كل فرد من أبناء هذا الوطن فرصة الحياة الحرة الكريمة الموفورة. (هتاف: الله أكبر والعزة لمصر والله أكبر وتحيا الجمهورية).

كفانا هتافاً أيها المواطنون، إننا نهتف بالجمهورية وبالعزة لمصر، وكما قلت ليست العزة هتافاً ولكنها معنى يتغلغل فى العقول وخلق يتأصل فى النفوس لكى نكون أهلاً لهذه الجمهورية.. هذه الجمهورية التى كانت أملاً يداعب الخيال، وكانت حلماً بعيد المنال، وقد تحقق الخيال وتحقق الحلم، ولكن هل نستطيع الإبقاء على الجمهورية؟ هل سنتمكن من تحقيق العزة والحرية؟

إنها ليست أهدافاً بسيطة - أيها المواطنون - بل إنها لتحتاج إلى جهود ضخمة.. جهود هذا الشعب كله، لم تقم من أجلنا نحن مجلس قيادة الثورة؛ بل قامت لكم وقامت بكم، وقامت من أجلكم، وأنتم المسئولون عنها بالفهم والإدراك.. فهم الحرية، وإدراك العزة، وحماية الجمهورية.

كل من لا يفهم فعليه أن يسأل، وكل من يعلم يجب أن يعلم غيره وأن يرشده وأن يهديه؛ حتى لا يستطيع الانتهازيون والرجعيون أن يدخلوا بين صفوفكم للتغرير بكم، إنهم سيحاولون ذلك بعد سنة أو بعد سنتين أو بعد خمس، فإن الثورة الفرنسية والجمهورية الفرنسية انتكست، ولابد من الاستفادة من هذه الدروس.

يجب - أيها المواطنون - أن نقضى على الاستبداد فلم يكن فى مصر فاروق واحد، بل كان فيها عشرة آلاف فاروق، كلكم تشعرون بهذا، وكل منهم سيحاول إيجاد الفرصة ليجعل من نفسه طاغية فى القرية أو طاغية فى المدينة. لابد أن نتخلص من هؤلاء جميعاً، لابد أن نخلق عهداً كله عزة وكله كرامة، فكل طاغية يحاول أن يطل برأسه يجب أن نهدمه، هذه هى الحرية وهذه هى العزة.

أيها المواطنون:

إن روح الطغيان مازالت موجودة عند بعض الناس، وهؤلاء ليس من مصلحتهم مطلقاً أن تتحرر مصر أو أن تعتز، فعلى كل من يهتف بالعزة لمصر أن يكون هو عزيزاً أولاً، فكم رأينا فى الماضى تحكم هؤلاء الطغاة فى لقمة العيش، وكيف كان الشعب يسأم الخسف والهوان ثم يقول: هذا هو القدر وهذا هو المكتوب. لا - أيها المواطنون - المقدر والمكتوب هو الكفاح وهو القتال فى سبيل عزة النفس وعزة الوطن وعزة المواطنين.

فإذا سمحتم لهؤلاء الطغاة أن يخدعوكم وأن يغرروا بكم، فلا تلومون إلا أنفسكم، فأنتم الذين يجب أن تعتزوا ببناء الجمهورية الحرة، وأنتم الذين تعيدون عهد الذل والاستعباد، إذا سرتم فى ركاب الخداع والتضليل والوعود. ونحن لن نعدكم بشىء - أيها المواطنون - لن نخدعكم ولن نضللكم ولن تسمعوا منا غير الحقائق.

لقد وصلت بكم الوعود الكاذبة والأمانى المعسولة إلى حقائق يرثى لها، إن الطغاة يريدون أن تعودوا عبيداً فى الأرض، وعبيداً فى المصانع، وعبيداً فى كل مكان. وإنهم لن يستطيعوا وحدهم أن يعيدوكم إلى حياتكم قبل الثورة، لن يستطيعوا شيئاً إذا تبصرتم ووعيتم، وحرصتم على ثورتكم التى قامت لتحذف من حياتكم أن هذا ابن فلان أو هذا ابن علان، كلنا أمام الوطن سواء.

هذا الوطن يريد أن يقوم على أساس اقتصادى قوى، والاقتصاد يقوم على المال أولاً، ومالكم - أى ثروة بلادكم - محدود كما تعلمون، وكانت احتكار لقلة من المصريين، وكان المصريون جميعاً لا ينالون منها شيئاً. أما اليوم فإن الثورة قررت أن توزع الثروة على المواطنين كل بحسب عمله، كانت الثروة من قبل للإقطاع فحطمت الإقطاع، وبدأنا نتخلص من الرجعية الاقتصادية، وفى نفس الوقت بدأنا نعمل على تنمية الثروة، فهذه التنمية وحدها هى السبيل إلى رفع مستوى حياة الفرد وحياة المجموع، ولكن هل نستطيع ذلك بسهولة؟

كلنا يعرف أن الاستعمار قد تمكن من البقاء فى بلادنا عن طريق إضعافنا، وكان يتعاون مع الرجعية على نشر الفقر والجهل والمرض بين أبناء هذه الأمة، فهل تظنون أن الاستعمار سيساعدنا ونحن نسعى للتخلص منه ومن الرجعية معاً؟! إننى أصارحكم القول: بأننا ما لم نعتمد على أنفسنا وعلى سواعدنا، فلن نصل إلى ما نريده من حياة حرة عزيزة.

إن الإنجليز يعرفون تماماً أن تقوية المواطن المصرى فيها إضعاف لقوتهم ونفوذهم فى هذا البلد، إنهم يدعون أمام العالم بأنهم يعملون على رفع مستوى الحياة فى الأمم التى يحتلون أرضها وهذا منطق يستحيل فهمه ولا يمكن أن يتفق مع العقل فى قليل أو كثير. وهذا هو العالم الحر أيضاً يعلن بأبواق أنه يساعد الشعوب الصغيرة على تقرير مصيرها واختيار الحكم الذى تراه، وأنه يساعد الأمم المتخلفة على أن تنهض.

هذا كلام أعتبره من الأفيون، يصدره عالم الغرب لتخدير الشعوب المستعبدة لكى تنام، ويظل هذا العالم الحر مسيطراً عليها؛ حتى لا تقوى وحتى لا تقف فى وجهه وحتى لا تسعى إلى التخلص منه. إنهم يعتبروننا أسواقاً لترويج منتجاتهم، وإنهم لينهبون ويسرقون أرزاقنا ويقدمونها هناك لأهليهم ولأبنائهم، ويعطوننا بدلاً عنها وعوداً وكلاماً كله ضلال وتضليل. وإليكم أمريكا مثلاً، إن كل الصحف تقول إنها ستعطينا قروضاً، ستساعدنا على تنفيذ مشروعاتنا الإنتاجية، إنها تعمل على رفع المستوى الصحى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى فى الأمم التى تحتاج إلى ذلك، وها نحن بعد أربعة عشر شهراً من قيام الثورة لم نر شيئاً ولم نصدق شيئاً، فإنها كلها وعود وكلها خداع وكلها بهتان.

إذا أردنا أن يكون لنا أبناء أحرار فلابد من الثقة بأنفسنا والاعتماد عليها كل الاعتماد. وهنا أوجه كلامى أساساً إلى الطبقة المتعلمة - وأنا أعتبر نفسى منها - فطالما تملقت العهود الماضية هذه الطبقة على حساب باقى الشعب، كانت الحكومات ترى أن الطبقة المتعلمة ذات ألسنة تستطيع أن تمتد إلى الحكومة لتقول لها مثلاً إنك لا تسيرين فى الطريق المستقيم، فتبادر الحكومة بصرف العلاوات بدل التفرغ وبدل التخصص وبدل الفن، وكانت هذه العلاوات كلها رشوة، وإنى لأربأ بالمتعلمين فى هذا العهد أن يقبلوا على أنفسهم هذا الوضع.

إننا لن نحابى فئة على فئة، ولكننا سنمضى بالوطن كمجموعة نحو الحياة القوية. أرجو أن نعرف هذا ونفهمه ونؤمن به، فإن الوطن لا يكون قوياً بوفرة الحياة لنصف مليون متعلم مثلاً، إننا نريد أن يأكل وأن يلبس وأن يسكن وأن يعالج كل المواطنين، وأنتم تعلمون أن العهود الماضية قد تركت لنا مواطنين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا مأوى يأويهم.

لقد قامت ثورتنا وهى تدرك ذلك كله. ودّعنا آباءنا وأهلينا فى فجر يوم ٢٣ يوليو ونحن نلتمس من الله الموت الأكبر الذى تحقق به النصر الأول، وأن هذا النصر كان رحمة بكم، ولذلك فنحن لا نفرق بينكم، ولا نشترى شيئاً بسيطاً تافهاً بشىء غال هو ثقتكم جميعاً، فعلى كل منكم أن يفكر فى أولاد جاره كما يفكر فى أولاده، على من يجد الخبز واللحم أن ينتظر؛ حتى ندبر لغيره الخبز واللحم ثم نفكر له فى الفاكهة، يجب أن نتخلص من الأنانية، وأن نفهم أن قوة الوطن فى قوة المواطنين جميعاً.

إننا نعلم أن بلدنا بلد محتل يقيم فيه إنجليز، وأن الإنجليز يوم تقوم المعركة لن يبقوا فى القتال بل سيدخلون إلى كل مكان يستطيعونه ليبحثوا عن خونة وعن حكومات يعتمدون عليها، سيبحثون عن أصحاب المصالح والمنافع لتكون أدوات لهم من جديد.

يجب أن نعمل وأن نتبصر وأن نتيقظ لكل ما يدور حولنا، كلنا نعرف تاريخ الإنجليز، ولكن الذى يجب أن نعرفه الآن هو أننا قررنا التخلص من الإنجليز، ولن يكون هذا بالكلام أو الهتاف، ولكنها وسيلة واحدة وغرض واحد هو حمل السلاح، والتطوع فى الحرس الوطنى، فكل أبناء هذا البلد يجب أن يكونوا جسماً واحداً هدفه وغايته القضاء على الاحتلال.

هنا أحب أن أقول لكم، إننا لن ندخل المعركة لنرضيكم أو نتملقكم، ولكنا سندخلها فى الوقت الذى نعرف فيه مقدماً أننا منتصرون، ولا يفوتنى أن أقرر أمامكم أننا نستعد لهذه المعركة منذ أول يوم قامت فيه الثورة، وإننا نعرف أن الحرية لا تنال إلا بالكفاح وبالقتال، ولنا فى محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - أسوة حسنة، فلم يكن الكلام سلاحه للتخلص من أعدائه، ولكنها كانت الحرب فى سبيل الله وفى سبيل الحرية، الحرب للدفاع لا الاعتداء، والحرب للسلام والدفاع عن كيان الوطن وعن كرامته، فلنؤمن بالله وبالوطن، فهذا الإيمان هو الذى يؤهلنا لغرض معركة التحرير الكبرى.

إننا لا نعقد هذه الاجتماعات لنستمع إلى الهتافات المدوية (الجلاء بالدماء)، ثم يذهب كل منا إلى بيته وكأن لم يكن، ولكنا نريد من كل مواطن أن يستعد لكى يبذل دمه فعلاً فى سبيل تحرير بلاده، وضمان حياة سعيدة لأبنائه فى وطن قوى عزيز.

إننا إذا أصبحت عقيدة التحرير راسخة فى قلوبنا، وأصبحنا جيشاً واحداً له قيادة فى كل قرية، وفى كل مدينة، فإن الإنجليز لن يستطيعوا الوقوف أمامنا ولو جمعوا لنا كل جيوش الدنيا جميعاً.

والسلام عليكم ورحمة الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة البكباشى جمال عبد الناصرفى مركز ومدينة منيا القمح بمديرية الشرقية

بتاريخ٢٠ نوفمبر ١٩٥٣م.