ندعو المواطنين إلى التبصر وإلى الوعى

ندعو المواطنين إلى التبصر وإلى الوعى

السلام عليكم يا أهل الجمالية الأحرار:

وأحب أولاً أن أقدم الشكر إلى السيدين عبد العزيز خضر ومحمد إبراهيم؛ على الإنشاءات التى بدآها لهيئة التحرير فى هذه المنطقة، وأشكر باقى الإخوان على الجهود التى بذلوها فى هذا السبيل، وإننى لأعتبر وضع حجر الأساس اليوم فألاً حسناً لهيئة التحرير بالجمالية.

إن هيئة التحرير التى قامت بعد الثورة قامت تهدف إلى تصفية القلوب، والتوفيق بين الغنى والفقير، والتعاون بين القوى والضعيف. هذه هى الأسس الأولية التى قامت عليها هيئة التحرير، فنحن لم ننشئها لأغراض شخصية أو منافع ذاتية، فكلنا ذاهبون، ولا يخلد على هذه الأرض وفى هذا الوطن إلا الأعمال الصالحة.

والحديث عن الأغراض والمنافع يجرنى إلى الحديث عن حال الجيش قبل الثورة، فكم حاولوا إرضاءه، حتى لا يتنبه الجيش - وهو مصدر القوة - إلى الحالة التى يوجد عليها المواطنون، فقد كان الجيش هو القوة التى يعتمد عليها الطغيان، لذلك كانوا يسألون دائماً ما هى طلبات الجيش، وما هى رغبات الجيش لأنهم كانوا يحسون إحساساً عميقاً بأن الجيش إذا تخلى عنهم فسيكونون بلا حول ولا قوة. وكنا نحن فى الجيش نشعر بما يحس به كل مواطن، ولم تشغلنا أحوالنا الشخصية أبداً عن أحوال سائر المواطنين. ورأينا أن علينا واجبات والتزامات، ولقد رفضنا أن نستكين وأن نسير مع الشيطان ونطلب ما نشاء وكل ما نطلبه مستجاب. ولكنا كنا ومازلنا نحس أن قوة الوطن ليست بقوة فئة منه، ولكنها قوة المواطنين جميعاً، فلم تشغلنا مطلقاً أحوالنا الشخصية - وأعنى المادية - عما كان يقاسيه سائر المواطنين، إننا نفكر دائماً إلى أين المصير.

وكان أمامنا أحد طريقين: أن نسير مع القوة وننافق ونخادع لنحقق لأشخاصنا كل المغانم، أو نسير مع الله وفى سبيل الله. لقد أخذ الضباط الأحرار الطريق الثانى لأنهم يؤمنون بالوطن وبهذا الشعب الذى استطاع أن يقضى على كل طغيان واستعباد، إنه لا يموت أبداً ويجب أن يبعث قوياً، وأن هؤلاء المواطنين إخواننا يجب أن نتعاون معهم ونسهر على صالحهم، ولا نكون أبداً سوطاً يلهب ظهورهم، بل قوة تنير لهم الطريق إلى بناء وطن متحرر سعيد.

اخترنا هذا السبيل واتجهنا إلى الله واستعنا به واتحدنا وتعاونا، وكانت المحبة رائدنا، فكان هذا سبيل النصر. وأصارحكم القول بأننا عندما هبت رياح الحرية وعندما نجحت الثورة لم نكن نعلم أبداً أننا سنقابل هذه المشاق وهذه الصعاب وهذه المسئوليات. لقد خرجنا فى الليلة الأولى للثورة وأمامنا هدف واحد وغرض واحد هو التحرير، هو العمل من أجل مصر، هو تخليص جميع المواطنين من الاحتلال ومن الظلم، فقد كان الظالمون يشعرون بقوة الجيش، وبأن الشعب إذا قاوم الظلم فإن الجيش يحميهم، فقررنا أن نربط الجيش بالشعب فنجحت الثورة.

وما كان ظلمهم للشعب اعتباطاً بل كان خطة.. بدأ محمد على الحكم باسم التحرر من سلطان الأتراك، ولكنه استعبد هو هذا البلد، فانتزع الثروة الزراعية كلها واختص بها نفسه، ثم وزعها على أذنابه وأتباعه وأهله وأنصاره ليتحكموا معه فى الأرزاق، وكانت سياستهم جميعاً تقوم على التحكم فى لقمة العيش.

وكان بيننا فى نفس الوقت أناس يطالبون بالحرية والاستقلال، وكانوا يضللون الشعب بالكلام المنمق والوعود المعسولة، وآثروا أن يرتقوا بمستواهم ومستوى عائلاتهم، وأن يتركوا الوطن يركع فى الذل والاستعباد. ليس الذنب ذنبهم، ولكنه ذنبنا نحن، نحن الذين استمعنا إليهم، ونحن الذين قنعنا بضلالهم وتضليلهم، ونحن الذين قبلنا تغريرهم. وسيعودون مرة أخرى إلى هذا الخداع وإلى هذا التضليل، إن لم نتيقظ نحن، وإذا لم نعرف ما يراد بنا، وأن نتبصر فى كل ما يقال لنا، وألا نعطى ثقتنا إلا لمن يستحقها، فإذا حاد عن الصواب وجد فينا من الشجاعة ما نستطيع معها سحب هذه الثقة، فالمسألة ليست عبادة أصنام، فإن عبادة الأصنام كان طريق هذا البلد إلى الهاوية.

إن رسالة هيئة التحرير قامت لتبصركم بهذا؛ فهى لا تعرف فى واجباتها كلاماً وإنما تعرف العمل للمواطنين جميعاً، وكل من يخطئ فله حسابه، فنحن فى هذه الهيئة نعمل طبقاً لعقيدة متحررة وفكرة جماعية.

وفى نفس الوقت ندعو المواطنين إلى التبصر وإلى الوعى، فإن فى هذه البلد أناساً سيخدمونكم باسم الحرية وباسم الدستور وباسم رفع المستوى الاقتصادى، فلا تستمعوا إلى هذا الضلال وإلى هذا التضليل. إنهم ضللوكم فى الماضى وسيضللونكم فى المستقبل، فإن الرجعية الأنانية لن تسكت ولكنها ستحاول التغرير بكم متعاونة مع الاستعمار. ولكننا اليوم فى ثورة اقتصادية واجتماعية وهى فى نفس الوقت ثورة تحريرية قامت لتحارب الفساد السياسى والرجعية الاقتصادية، وقامت لتحرير البلاد من كل عبودية، فثورة الإنشاء والتعمير يجب أن تعيش جنباً إلى جنب مع ثورة الاستقلال والتحرير.

وأريد أن أصارحكم بمنطق بعيد عن أسلوب الخطب والكلام الجميل الذى يثير الحماس، إننا اليوم فى مشكلة كبرى أمام حالة البلاد، هذه البلاد العزيزة التى أضاعوها وتركوها أطلالاً، وقمنا نبنى من جديد ليأخذ وطننا المكان اللائق به، أصارحكم بقولى إننا إن لم نعتمد على أنفسنا فلن نستطيع أن نعمل شيئاً.

لقد كان هذا البلد ولا يزال قبلة الطامعين نظراً لأهميته الجغرافية والاقتصادية، ولو نظرنا إلى التاريخ لوجدناه حافلاً بالبراهين على ما نقول. وها نحن اليوم فى بلد محتل، وهذا الاحتلال الذى نقابله فى الداخل والذى تمكن من أرضنا بفضل التعاون مع الرجعيين فى الماضى. كانت خطتنا التخلص من هؤلاء الخونة حتى لا يجد المستعمر بيننا أناس يتعاونون معه، ولكن المستعمر، فى نفس الوقت الذى يحتل فيه جانباً من وطننا، يعمل بكل الطرق والوسائل لإضعافنا.. كيف؟

إن مصر البلد الزراعى يستورد كل عام قمحاً بأربعين مليوناً من الجنيهات، ويوم يقال لنا: لا يوجد لكم قمح استطاعوا أن يتحكموا فى أرزاقنا، لذلك ينبغى أن نعتمد على أنفسنا فى بناء وطننا الجديد.

وتعداد المصريين ٢٢ مليوناً، دخلهم القومى ٦٦٠ مليوناً من الجنيهات، يعنى دخل الفرد فى السنة ٣٠ جنيه وفى الشهر جنيهين ونصف، ونحن فى كل عام نزيد ٣٥٠ ألف نسمة، وبعد خمسين سنة سنصبح ٤٤ مليون، والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، فإذا كنا نريد أن نرتفع بمستوى حياتنا يجب أن نضع نصب أعيننا هذه الحقيقة: مستوى المعيشة فى انخفاض، والسكان فى ازدياد، والثروة كما تعلمون.

ونحن إذا استمرت بنا الحال كما كانت عليه فى الماضى، فماذا يكون مصير أولادنا؟ إنهم سيلاقون ولاشك عناءً وإرهاقاً، ونكون بذلك شعباً يسير إلى الهاوية. فإذا أردنا أن نتقى شر هذه الهاوية فلابد أن يقوم الأساس قوياً متيناً، وهذا لا يمكن التفكير فيه من الناحية الفردية، بل ينبغى أن يكون التفكير الجماعى هو رائدنا فى حل هذه المشكلة الكبرى.

وهذه المشكلة الكبرى لا يمكن حلها إلا بأن تصبح بلادنا زراعية صناعية معاً، ولكنا لا نجد المال اللازم لمشروعاتنا الإنتاجية. وهذه المشروعات تحتاج إلى مال أجنبى، ولكن الاحتلال - أيها المواطنون - يحاربنا هناك، إنه سيعمل بكل الوسائل على منع أى مدد يأتينا من الخارج، لماذا؟ لأن كل حجر نضعه فى بناء الصناعة سيكون سبيلاً إلى تقويتنا، وسنكون به أمة ذات خطر، ونكون دولة ذات قوة.

فلا تنتظروا لمشروعاتنا إعانة من هنا أو من هناك، ولا تعلقوا أملاً على البنك الدولى لإنشاء السد العالى، ولا تحسبوا أن أحداً سيأتينا بقرض ما لم يعرف مقدماً الثمن، وما لم يضمن على الأقل أن تكون بلادنا سوقاً لمصنوعاته ومنتجاته. إن كل من يقرضنا يفكر أولاً فى مصلحته، وهذه المصلحة لا تتفق أبداً مع صالح مصر.

فنصيحتى إليكم هى أننا إذا أردنا أن نلبى وأن نحقق لأنفسنا ولأولادنا حياة عزيزة كريمة فلنشترك جميعاً فى البناء، وليكن كل المواطنين أقوياء، فلا تتدلل الطبقة المتعلمة على حساب العمال والفلاحين. ولقد ضربت لكم المثل بنا نحن الضباط فى أول حديثى لتعلموا أن التفكير الفردى يصل بالوطن إلى الهاوية.

عندنا أرض زراعية تكفينا من القمح ومن الأرز ومن القطن، وكل ما نريد هو العمل القومى فى بناء الأساس، ولنعتمد على أنفسنا خمس سنوات فقط هى مدة إنشاء السد العالى، فتصبح بلادكم قوة، ويصبح كل المواطنين رجالاً يحققون لبلادهم استقلالاً سياسياً واستقلالاً اقتصادياً.

إننا لن نخدعكم ولن نموه عليكم، بل سنواجهكم بالحقائق دائماً، فالمصارحة هى السبيل الوحيد إلى كسب المعركة.. معركة الانتماء، أما معركة التحرير فنحن نعمل فى كل وقت على أن نخوضها بكل الوسائل وكل المقومات، وليست العبرة بدخول المعركة وإنما العبرة بالخروج منها منتصرين.

 والسلام عليكم ورحمة الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة البكباشى جمال عبد الناصر- نائب الرئيس - فى هيئة تحرير الجمالية

بتاريخ الثامن عشر من فبراير عام  ١٩٥٣م.