(محافظة الغربية ـ ١٩٢٢)
ذات
صباح شتوي غائم، استيقظ طفل اسمه سعد الشاذلي- «اليوم السابق لامتحان الشهادة الابتدائية» - وارتدى ملابسه وحمل شنطته المدرسية، وخرج من بيته بمفرده فى صمت.. بدأ يمشى فى طريقه نحو المدرسة التى تبعد عن القرية نحو ستة كيلو مترات، سيرًا على الأقدام، حتى وصل بابها.
«الباب مغلق.. اليوم هو الجمعة»، ثم عاد مرة أخرى مسرعًا إلى البيت، فى الطريق التقاه فلاح من أهل القرية وسأله: «يا سعد من أين أنت قادم فى هذا الصباح؟»، ردّ: «خرجت من البيت حتى أعرف طول المسافة وبالتالى الوقت الزمنى من قريتى إلى مدرستى بالضبط»، فسأله: ولماذا تفعل ذلك؟ ردّ: «حتى أصل فى موعدى ولا أتأخر عن موعد الامتحان غدًا».
نظر إليه الرجل من فوق حماره، ثم نزل مبتسمًا وحمله فوق ذراعه، وهو يقول: «ربنا يحميك يا سعد! وترفع رأسنا فى كل مكان».. إنه الانضباط.. والكبرياء.
( القرية - بعد سنوات)
لقد عاش سعد محمد الحسينى الشاذلى - اسم الشهرة سعد الدين الشاذلى - حياته الإنسانية المديدة، والعسكرية العظيمة، فى كبرياء، وصدق، وفداء، وموهبة- «الموهبة ليست حكرًا على الفنان أو الشاعر أو الروائى أو الصحفى» - عاش يحلم بالنهار! فجاءت حياته - مثل موال النهار- جادة، وحادة، وناجحة، ومتمردة، وصاخبة إلى حد الدهشة منذ ميلاده فى شهر أبريل/ ١٩٢٢ وحتى رحيله فى ١٠ فبراير٢٠١١، وهو كما هو.. لم يغير أقواله، ولم يهجر أحلامه، ولم يُراجع أفكاره، ولم يُبدل ألوانه.. فاللون الأبيض ظل بداخله أبيض.. واللون الأسود ظل بداخله أسود - «رجل لا يحب اللون الرمادىِّ» - وبجوار ذلك كله يحب الانضباط، ويعشق العمل، ويقول الحق فى السر والعلن.
وبهذا الانضباط الصارم، والعمل الجاد، والموهبة العسكرية الفذة، سار فى دروب الحياة منذ طفولته فى ريف دلتا مصر حتى وصل إلى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية «من ١٦ مايو ١٩٧١ وحتى ١٣ سبتمبر ١٩٧٣» ليعمل، ويفكر، ويخطط، ويدبر، وينفذ ما أطلق عليها خطة حرب التحرير «المآذن العالية»، التى حققنا بها العبور الكاسح لخط بارليف المنيع يوم ٦ أكتوبر العظيم.. إنه الشرف العظيم والكبرياء.
(أكتوبر ـ أرض المعركة)
فى ذلك اليوم (٦ أكتوبر) وما بعده من أيام النصر، قالت جولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل: «إننى لا أحاول أن أصف كيف كانت تلك الأيام بالنسبة لى».. ثم أردفت قائلة: «يكفى أن أقول إننى لم أستطع أن أبكى حتى عندما انفردت بنفسى»!.. وعندما وقف أمامها موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى «حينذاك» عصر يوم ٧ أكتوبر، وقال لها: «يجب أن نقوم بانسحاب فورى من أمام الجيش المصرى الذى عبر القناة»، ردت: «إلى هذه الدرجة يا ديان؟»، سكت برهة ثم قال: «إن استمرار مواجهة المصريين يحمل فى طياته ثمنًا باهظًا سندفعه من الأرواح البشرية» - وهذا جوهر خطة «المآذن العالية» التى وضعها الشاذلى- ردت جولدا وهى منهارة: «اسكت يا ديان.. لا تُسمعنى.. ولا تحدثنى عن هذا الثمن! هذا الثمن.. بمثابة سكين فى قلبى»!..
لقد استطاع سعد الشاذلى بموهبته العسكرية الفذة، وتفكيره العلمى المدروس، أن يغرس السكين فى قلب جولدا مائير ويقتل فيه الغرور والغطرسة والغباء!.. إنها الموهبة.. والكبرياء.
( القاهرة -١٩٤٠)
منذ البدايات، بدأت ملامح الانضباط المصحوب بالكبرياء تظهر على تصرفات وأفعال الطفل سعد -سُمى بهذا الاسم تيمنًا باسم سعد زغلول-، وهو ما زال صغيرًا يلهو بجوار الجدران البعيدة، وبين الدروب الحزينة، فى شوارع ومزارع قريته «شبرا تنا. مدينة بسيون» - تبعد عن القاهرة ١٢٣ كم- ومنذ أن كان عمره ١٠ سنوات عُرف بين أفراد أسرته، وأهل قريته، بالانضباط الشديد، والذكاء المبهر. فى صيف يوليو ١٩٤٠ تخرج الضابط سعد الشاذلى برتبة ملازم فى سلاح المشاة، وكان أصغر طالب فى دفعته، وتم انتدابه عام ١٩٤٣ للخدمة فى الحرس الملكى لكفاءته، وتميزه، وإمكاناته العسكرية الواضحة، وبعد ٥ سنوات وقعت نكبة ١٩٤٨ وتحركت الجيوش العربية لدعم الشعب الفلسطينى، ورغم أنه كان يخدم بعيدًا عن مسرح العمليات، إلا أنه دخل على قائده ذات صباح، وقال له: «يا أفندم أُريد السفر إلى الجبهة للمشاركة فى الحرب» رد القائد: «يا ابنى إنت مجنون؟! فيه حد يروح للحرب برجليه، رد: "أنا يا أفندم"! القائد: «اتفضل يا حضرة الضابط على خدمتك»!.. وفى صباح اليوم التالى جمع القائد ضباط الحرس، وقال لهم: «جلالة الملك يقول لكم من يريد منكم التطوع للمشاركة فى الحرب.. يتفضل.. أهلا وسهلًا.. الباب مفتوح»! وبذلك شارك الشاذلى- دون قصد - فى أن يُجبر البلاط الملكى -رغم بعض أو كل فساده- فى أن يُرسل سرية من ضباطه إلى فلسطين..إنها الكرامة.. والكبرياء.

(أكتوبر - الحرب والسلام)
فى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ عند الساعة «الثانية وخمس دقائق ظهرًا»، شن الجيشان المصرى والسورى هجومًا على القوات الإسرائيلية، بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصرى خطة «المآذن العالية» التى وضعها الفريق الشاذلى بنجاح غير متوقع، وبحلول الساعة الثانية من صباح يوم الأحد ٧ أكتوبر ١٩٧٣، حققت القوات نجاحًا حاسمًا فى معركة القناة، وعبرت أصعب مانع مائى فى العالم وانتهت أسطورة خط بارليف.
وبعد مرور ٦٧ يومًا تقريبًا من بدء القتال، قرر الرئيس السادات إقالته بعدما اختلف معه «من ناحية التخطيط العسكرى» فى أسلوب معالجة الثغرة ورفضه - أى الرئيس السادات - الخطة التى وضعها الشاذلى للقضاء عليها يوم ١٦ أكتوبر. وفى يوم ١٣ ديسمبر، اتصل به المشير أحمد إسماعيل، ودعاه إلى لقاء عاجل، وقال له: «الرئيس قرر تعيينك سفيرًا لمصر فى لندن»، رد بحسم: «أرفض هذا التعيين».. هذه مكافأة.. لماذا ترفض؟ قال: «لو كانت عقابًا.. فالأفضل أن أُعاقب فى بلدى وإن كانت مكافأة فمن حقى رفضها»، واستمر رفضه عدة أسابيع حتى أقنعه الرئيس السادات بحيلة - يراها الشاذلى خديعة - مما جعله يوافق فى نهاية الأمر ويسافر للعمل سفيرًا فى لندن فى ١٣ مايو ١٩٧٤، ثم نُقل إلى لشبونة عاصمة البرتغال فى ١٩٧٦.
وبعد إعلان اتفاقية كامب ديفيد رفضها واستقال من الخارجية. وذهب كلاجئ سياسى في الجزائر، رافضًا كل العروض التى انهالت عليه من مدن عربية ودولية كثيرة، ليعيش فيها ١٤ سنة، عاد بعدها للقاهرة فى مارس عام ١٩٩٣، فى المطار أُلقي القبض عليه، وترحيله للسجن بسبب كتابه «مذكرات حرب أكتوبر»- صدر ١٩٧٨- ردًا على كتاب الرئيس السادات «البحث عن الذات»، الذى اتهم فيه السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغمًا عن جميع النصائح من المحيطين به من العسكريين، وتدخله المستمر فى الخطط أثناء سير العمليات على الجبهة، أدت إلى التسبب فى الثغرة. وهو الكتاب الذى أدى إلى محاكمته غيابيًا فى عهد الرئيس مبارك عام ١٩٨٣ بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ووضعت أملاكه تحت الحراسة، وتجريده من حقوقه السياسية. فى السجن، طُلب منه تقديم التماس لرئيس الجمهورية «مبارك» للعفو عنه، لكنه رفض ذلك. وبعد مرور سنة ونصف السنة قضاها فى السجن الحربى صدر عفو شامل شمله ووافق عليه، ليخرج من السجن دون أن يقدم أى التماس! إنها العزة.. والكبرياء.
سعد الدين الشاذلى.. رجل من الرجال الذين عاشوا يحلُمون بالنهار... من أجل الوطن!
.. والوطن - بحقائق التاريخ - لا ينسى رجاله...ولا ينسى النهار!