الدكتور على الحفناوي يكتب: تدخلات إنجلترا في مصر

الدكتور على الحفناوي يكتب: تدخلات إنجلترا في مصر
منذ مجيئ حملة نابليون بونابارت الفرنسية إلى مصر، ومنذ لحظة تدمير الأسطول الفرنسي بعد شهر من وصوله لمصر في موقعة أبو قير البحرية، لم تكف إنجلترا عن الاهتمام بمصر وبما يدور فيها، ومحاولة التدخل في كل شئونها. وفيما يلى أمثلة لتلك التدخلات طوال العقود التالية:
• حاصر الأسطول البريطاني الجيش الفرنسي في مصر وأرغمه على الاستسلام والعودة منزوعا السلاح إلى فرنسا على متن السفن البريطانية عام ١٨٠١م.
حاولت إنجلترا احتلال مصر عام ١٨٠٧م، بإرسال حملة "فريزر" التي استطاع محمد على صدها في الإسكندرية ورشيد
• حاربت إنجلترا جماعة مهندسى السان سيمونيان التي كانت تدرس مشروع شق قناة السويس، وضغطت على السلطان العثمانى وعلى محمد على لعدم تنفيذ المشروع؛ حتى صرح اللورد بالمرستون في مجلس العموم: "لو صمم الفرنسيون على حفر قناة في مصر ستحاربها إنجلترا، حتى لو استمرت تلك الحرب مائة عام"
• عندما عين السلطان العثمانى إبراهيم باشا حاكما على اليونان وكلفه بإخماد حرب التحرير بها، أرسلت إنجلترا أسطولها بعد اقناع كل من روسيا وفرنسا بالانضمام لها، وهزمت الأسطول المصرى في نافارين عام ١٨٢٧م، وأجبرته للعودة إلى مصر. ثم هددت إنجلترا محمد على بمعرفة الأميرال البريطاني "كودرينجتون" فى أغسطس ١٨٢٨ حتى يسحب كل جيشه من اليونان
• عقدت إنجلترا مؤتمرا دوليا في لندن عام ١٨٤٠ لإصدار قرارات تجبر مصر وجيشها بقيادة إبراهيم باشا على الجلاء عن بلاد الشام التي كانت تحكمها منذ عشر سنوات. وكان هذا التواجد المصرى قد أدى إلى تهديد كيان الإمبراطورية العثمانية، الذى رأت إنجلترا الدفاع عنها في هذا الوقت. وبالفعل انسحبت الجيوش المصرية والتزمت بحدودها الأفريقية تلبية لقرارات مؤتمر لندن
• عندما توفى كل من إبراهيم باشا ومحمد على عام ١٨٤٨، تدخلت بريطانيا للضغط على الباب العالى لاختيار "عباس حلمى الأول" حفيد محمد على، ابن أحمد طوسن، واليا على مصر بدلا من أحد أبناء إبراهيم باشا. فقد كان هو رجلهم في مصر وعرف أنه كان كارها للفرنسيين... لذلك قام عباس الأول بطرد كل الأجانب من مصر ووقف عمل كل المشروعات، إلا مشروع إنشاء خط السكة الحديدية بين القاهرة والإسكندرية الذى قامت به إنجلترا ومهندسيها... وعزل عباس حلمى الأول نفسه في قصر شيده ببنها، وكانت معاملته للمحيطين به سيئة، أدت في النهاية إلى اغتياله عام ١٨٥٤ على يد خدم القصر.
• بعد مقتل عباس الأول، تولى محمد سعيد، ابن محمد على، الولاية على البلاد. وعلى عكس ابن أخيه عباس الأول، كان محمد سعيد أكثر ميلا للنفوذ الفرنسي. وقد أدى ذلك إلى تحمسه للتوقيع على فرمان حفر واستغلال قناة السويس لديليسبس. ولكن تدخلت إنجلترا مرة أخرى بالضغط على السلطان العثمانى لرفض مشروع القناة، مما أدى إلى تعطله لفترة طويلة. ونتيجة للالتزامات الضخمة التي وافق عليها محمد سعيد لعمل قناة السويس، تراكمت الديون على مصر ووصل حجمها في نهاية عهده إلى ٢٥٠ مليون فرنك ذهب خالص.. وقد أدى ذلك إلى إسراع إنجلترا بإنشاء بنك في مصر للاستفادة بفوائد الديون، أسمته البنك الانجليزى المصرى (Anglo-Egyptian Bank)
• جاء إسماعيل، ابن إبراهيم باشا، إلى الحكم في يناير ١٨٦٣بعد وفاة محمد سعيد. لم يكن إسماعيل مقربا للثقافة الإنجليزية، ولكنه كان يحذر من التحركات البريطانية في شئون بلاد الشرق، فقد تخرج من كلية قادة أركان الحرب العسكرية في فرنسا. من جانب آخر، لعب "نوبار نوباريان" دورا خفيا أشبه بدور الجاسوس المزدوج، أحيانا لصالح فرنسا وأحيانا لصالح إنجلترا. وقد كتب نوبار في مذكراته أنه كان يحتقر الوالى محمد سعيد لكنه كان يكره الخديوى إسماعيل، بالرغم من بلوغه أعلى المناصب وحصوله على الباشوية في ظل حكم إسماعيل... لذلك، نجد نوبار وقد لعب دورا هاما مع ديليسبس في اقناع إسماعيل ببيع الأسهم المصرية في قناة السويس عام ١١٨٧٥ لرئيس وزراء إنجلترا "ديزرائيلى". وعندما عين نوبار رئيسا للوزراء بمصر عام ١٨٧٨، تحرك في الكواليس لصالح إنجلترا لإقناع السلطان العثمانى بخلع الخديوى إسماعيل من الحكم عام ١٨٧٩، وظل هو رئيسا للوزراء في مراحل مختلفة من عهد الخديوى توفيق.
• وعندما جاء عهد الخديوى توفيق، ابن الخديوى إسماعيل؛ تولى الانجليز تصعيد توفيق إلى منصب رئيس الوزراء في البداية، ثم قاموا بترشيحه لدى الباب العالى ليكون ثانى خديوى مصري بناريخ ١٥ نوفمبر ١٨٧٩، بعد أن نجحوا في إزاحة والده من الحكم. وبسبب الانهيار الاقتصادى، كانت مصر تدار في هذا التوقيت بمعرفة المراقب العام البريطاني السيد ايفلين بارينج (نائب اللورد كرومر)، ويعاونه السيد أوكلاند كولفين، واحتفظ الفرنسيين بمهمة إدارة الدين المصرى على يد السيد ايرنست بينيار.
• ثم جاءت أحداث الثورة العرابية وتحصين الإسكندرية بجيش عرابى ضد أي هجوم بريطاني، فقام الانجليز بدك المدينة من البحر وحاولوا انزال قواتهم، فتصدى لهم الجيش المصرى في موقعة كفر الدوار في مايو ١٨٨٢، ولجأ توفيق للاختباء على متن سفينة القيادة البريطانية. وخلال الأسابيع التالية، التف الأسطول البريطاني إلى قناة السويس، فهرع عرابى إلى منطقة القناة لمحاولة ردم المجرى الملاحى، ولكن ديليسبس وعده بمنع دخول أي سفينة بريطانية في القناة، لكنه خالف وعده، واستطاع الانجليز انزال قواتهم في الإسماعيلية والاشتباك مع عرابى وجيشه في معركة التل الكبير يوم ١٣ سبتمبر ١٨٨٢... وبدأ احتلال مصر عسكريا وسياسيا منذ هذا التاريخ.
• في ١٨٨٤، أمر ايفلين بارينج الخديوى توفيق بالتخلي عن ولاية مصر على السودان، وقبل توفيق دون تردد... وفى ١٨٨٨، أدرك توفيق خطورة دور نوبار باشا المزدوج، فأبعده عن الحكم. وفى الأعوام التالية، فقد توفيق اهتمامه بشئون الدولة، وصار يقضى وقته مهتما بزراعة أطيانه، ومنغمسا في أنشطة عقائدية مع الجماعات الماسونية حتى وفاته في ٧ يناير ١٨٩٢.
• بعد نهاية حكم الخديوى توفيق الخاضع للانجليز، يتولى الحكم ابنه الخديوى عباس حلمى الثانى، فكان أكثر تحررا من أبيه تجاه الهيمنة البريطانية. حاول عباس الثانى اكتساب شعبية الجماهير بخفض الضرائب وإظهار تقربه من الفرنسيين... ولكن، وفى ١٨٩٥، يتدخل اللورد كرومر وبتأييد من كيتشنر لفرض تعيين مصطفى فهمى باشا رئيسا للوزراء، وهو المعروف بتأييده التام لانجلترا.
• وفى عام ١٩٠٤، تقوم بريطانيا بتوقيع اتفاقية "الوفاق الودًى" مع فرنسا، حيث اقتسمتا مناطق النفوذ شرقا وغربا، فاحتفظت بريطانيا بمصر واستبعدت فرنسا من أي تدخلات فيها، واحتفظت هي بالمغرب... وكانت تلك الاتفاقية مقدمة لاتفاقية سايكس بيكو الموقعة بينهما فيما بعد.
• مع بداية دخول تركيا في الحرب العالمية الأولى، قام الخديوى عباس حلمى الثانى بتشجيع المصريين على مقاومة الاحتلال البريطاني.. كان رد فعل الانجليز عنيفا، فخلعوا عباس من السلطة، وسلخوا الدولة المصرية من ولاية السلطان العثمانى وأعلنوا وضع الحماية عليها، بل وأعلنوا تحويلها إلى دولة مستقلة بنظام السلطنة مع تعيين حسين كامل، أحد أبناء الخديوى إسماعيل، سلطانا عليها، على أن تظل تحت الحماية البريطانية، أي الاحتلال والهيمنة الكاملة عليها دون تدخل من أحد.
• وفى ظل الاستعمار الانجليزى المتوحش، لم تجد إنجلترا أي مانع من تجنيد آلاف الفلاحين المصريين للمشاركة في معارك الحرب العالمية الأولى في مختلف البلاد. وقد أظهرت الأبحاث والدراسات القيمة التي قام بها الدكتور أشرف صبرى، بدعم من القوات المسلحة المصرية، أن عدد شهداء مصر في أنحاء أوروبا خلال تلك الحرب قد تعدى رقم ستمائة ألف شهيد. وقد أدت تلك الأبحاث مؤخرا إلى رفع العلم المصرى على مقابر شهداء مصر في تلك الحرب.. وأثناء نلك الفترة الحرجة، تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو عام ١٩١٦ لتأكيد تقسيم مناطق الولايات العثمانية المنهزمة في الحرب لتوزيع الهيمنة عليها بين فرنسا وانجلترا.
• كان السلطان حسين كامل يعد ابنه الأوحد الأمير "كمال الدين حسين" لتولى الحكم من بعده، ولكن عند وفاته، دفع المندوب السامى البريطاني "هنرى ماك ماهون" بابن الخديوى إسماعيل، أحمد فؤاد، لتولى منصب سلطان مصر حاملا اسم فؤاد الأول منذ أكتوبر ١٩١٧.
• بعد نهاية الحرب، قامت ثورة ١٩١٩ في ربوع البلاد للمطالبة بالاستقلال وجلاء الانجليز عن مصر بما فيها قناة السويس. رأت بريطانيا بعد مؤتمر فرساى، منح مصر نوع من الاستقلال الجزئى في٢٨ فبراير ١٩٢٢، مع الغاء الحماية البريطانية بما سمح باستبدال نظام السلطنة بمملكة مصر بتاريخ ١٥ مارس، تلاه صدور دستور ١٩٢٣. وقد اعتبر سعد زغلول هذا الاستقلال الممنوح والمحدود كارثة وطنية؛ فقد احتفظت بريطانيا بكامل هيمنتها وتواجدها في أروقة السياسة المصرية، كما احتفظت بقواعدها العسكرية وسكنات جيشها، ورفضت أي تواجد مصري في شئون السودان.
• وفى عام ١٩٣٦، ومع بوادر التوتر الدولى قبل الحرب العالمية الثانية، ومع استيلاء إيطاليا على الحبشة، أرادت بريطانيا تحييد التوجهات والنزعات الوطنية المصرية، فقبلت التفاوض على استقلال مصر تحت مسمى معاهدة صداقة. وتم توقيع تلك المعاهدة في أغسطس ١٩٣٦، والتي منحت مصر جزءا أكبر من الاستقلال، دون المساس بالتواجد العسكرى في قناة السويس، بل دعمت هذا التواجد ومنحت لنفسها حق التدخل العسكرى في أي وقت بإدعاء حماية مصالح مصر وبريطانيا.
• مع نشوب الحرب العالمية الثانية، زاد التواجد العسكرى البريطاني في مصر، بل وفرض على مصر دعم هذا التواجد بإمداد القوات الانجليزية بكل مستلزمات الحرب من وقود وغذاء وخلافه، على أن تسدد إنجلترا قيمتها مع نهاية الحرب. (ولم تسددها إلا بعد تأميم قناة السويس في ١٩٥٦)... كان موقف القصر والحكومة المصرية (حكومة على ماهر)، متعاطفا مع دول المحور بأمل التخلص من الاستعمار البريطاني، ولكن دفعت إنجلترا بدباباتها لمحاصرة قصر عابدين في ٤ فبراير ١٩٤٢ لإجبار الملك فاروق على تغيير الحكومة، وتعيين حكومة الوفد غير الموالية لدول المحور... وفى٢٦ فبراير ١٩٥٥، أجبرت إنجلترا مصر على اعلان الحرب على ألمانيا واليابان، إن أرادت أن يكون لها مقعدا لدولة مستقلة في منظمة الأمم المتحدة الجارى تأسيسها.
• ومنذ١٩٤٥ وحتى ١٩٥١، حاولت حكومات مصر المتعاقبة تعديل أو تفعيل بنود معاهدة ١٩٣٦ دون جدوى، مما اضطر مصطفى النحاس إلى إعلان إلغاء المعاهدة من طرف واحد في ٨ أكتوبر ١٩٥١، قائلا من أجل مصر وقعت المعاهدة ومن أجل مصر ألغيها، ويعلن استقلال مملكة تحمل لأول مرة اسم "مملكة مصر والسودان".. وبالطبع لم تعترف إنجلترا بهذا الإلغاء، فبدأت حرب القناة من هذا التاريخ بين الفدائيين المصريين والقوات البريطانية، مات خلالها المئات من الجانبين، وحرقت القاهرة، وقامت ثورة ١٩٥٢، الخ.. ولم تهدأ المقاومة المصرية قبل توقيع اتفاقية الجلاء في ١٩٥٤، ثم الجلاء الفعلى في يونيو ١٩٥٦...
• ثم كانت المحاولة الأخيرة للتدخل البريطاني في الشأن المصرى هي اشتراكها مع فرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثى بنهاية عام١٩٥٦، أملا في العودة لاحتلال مصر وقناتها. وفشلت المحاولة بسبب المقاومة المصرية وتدخل الاتحاد السوفيتى بالتهديد النووي، وكذلك بسبب تهديد أيزنهاور لأنتونى إيدن بإسقاط قيمة الجنيه الاسترلينى إن لم تنسحب القوات الإنجليزية فورا من مصر.
هكذا كان تاريخ مصر مع إنجلترا طوال عقود طويلة... وهذه مجرد جزء من سلسلة طويلة من تدخلات سياسية وعسكرية واقتصادية لصالح أكبر امبراطورية استعمارية عرفها التاريخ الحديث، واجهتها مقاومة مصرية أشعلت الحركة الوطنية المصرية ضد المستعمر... وانتهت الإمبراطورية التي لا يغيب عنها الشمس، واحتفظت مصر بتاريخ مليئ بالبطولات.. تاريخ خطه الأجداد بدماءهم ليبقى عبرة للأحفاد.