قراءة في كتاب "عبد الناصر.. الحروب الخفية مع المخابرات الأمريكية"

بقلم: عمرو صابح
كتاب "عبد الناصر والحروب الخفية مع المخابرات الأمريكية" للأستاذ عادل حمودة، واحد من أهم وأعمق الكتب التي تناولت عهد الرئيس جمال عبد الناصر. صدرت طبعته الأولى عام 1988، واعتمد مؤلفه على آلاف الوثائق والشهادات والمذكرات السياسية في رسم صورة دقيقة لصراع من أخطر صراعات القرن العشرين: الصراع بين عبد الناصر والمخابرات المركزية الأمريكية.
ذلك الصراع لم يكن في العلن وحده، بل جرى معظمه في الظل، بين قصر الرئاسة في القاهرة ومكاتب الـ"سي. آي. إيه" في واشنطن. فمنذ اللحظة الأولى لصعود عبد الناصر، أدرك الأمريكيون أنهم أمام قائد مختلف: شاب يرفض الانصياع للغرب، يواجه الأحلاف العسكرية، يكسر احتكار السلاح بصفقة الأسلحة التشيكية مع الاتحاد السوفيتي، ويؤمم قناة السويس متحدياً الإمبراطورية البريطانية. عندها كان من الطبيعي أن تدفع واشنطن بمخابراتها إلى قلب المعركة، لتبدأ حرباً من نوع آخر: إعلام مسخّر، تمويل لجماعات معارضة، مؤامرات اغتيال، وحملات منظمة لتشويه صورة عبد الناصر وإضعاف حكمه.
يكشف الكتاب بوضوح خيوط المؤامرة ضد الوحدة المصرية السورية. فالانفصال لم يكن مجرد أزمة داخلية كما حاولوا تصويره، بل عملية حيكت خيوطها في الخارج، حيث غذّت المخابرات الأمريكية التناقضات بين النخبة السورية والمصريين حتى انهارت التجربة الوحدوية التي حلم بها عبد الناصر كخطوة أولى نحو الوحدة العربية.
أما حرب اليمن، فقد كانت ساحة أخرى للصراع الدولي. لم تكن مصر تواجه الملكيين وحدهم، بل شبكة دعم خارجي معقّدة، كان الأمريكيون جزءاً منها، ومعهم البريطانيون والسعوديون. الهدف كان واضحاً: إنهاك الجيش المصري واستنزاف موارده.
ثم جاءت ضربة 5 يونيو 1967. يرصد عادل حمودة كيف لعبت المخابرات الأمريكية دوراً حاسماً عبر توفير دعم استخباراتي لإسرائيل، ما جعل الضربة الجوية الأولى كارثية. ومع ذلك، لم يسقط عبد الناصر بعد النكسة، بل بدأ فوراً في إعادة بناء الجيش، وأطلق حرب الاستنزاف.
بعد حرب 1967 حاولت واشنطن استيعاب عبد الناصر عبر قنوات سرية ومبعوثين يحملون مبادرات مغرية في ظاهرها، لكنها في جوهرها كانت أفخاخاً للتسوية على حساب دور مصر الإقليمي في العالم العربي. رفض عبد الناصر بعناد، وظل ثابتاً على موقفه: لا سلام قبل انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة، ولا تراجع عن الدور المصري في العالم العربي.
قام المؤلف كذلك بتفنيد أكاذيب مايلز كوبلاند التي نشرها في كتابه لعبة الأمم، كما كشف زيف ما كتبه محمد جلال كشك في كتابه كلمتي للمغفلين.
ومع رحيل عبد الناصر انهار البنيان الذي أقامه بيديه. كان نظامه مرهوناً بشخصه أكثر من كونه مؤسساً على مؤسسات قادرة على حماية مشروعه. فجاء السادات ليجد الساحة خالية، فهدم الاشتراكية، وفتح الأبواب لأمريكا وإسرائيل. لم تكن مأساة عبد الناصر في هزيمة 1967 فقط، بل أيضاً في أنه لم يترك من بعده دولة تصون تجربته. فمات الزعيم ولم تكتمل تجربته.
يكشف الكتاب ـ من خلال الوثائق الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية والعربية ـ أن عبد الناصر لم يكن مجرد زعيم لدولة نامية، بل كان طرفاً أصيلاً في حرب استخباراتية عالمية لم تهدأ رغم رحيله.
كان عبد الناصر أحد أخطر الخصوم الذين واجهتهم المخابرات الأمريكية في القرن العشرين.
جعل عادل حمودة عنوان مقدمة كتابه: "الاغتيال الثاني لعبد الناصر"، متعجباً من استمرار الهجوم عليه رغم مرور سبعة عشر عاماً على وفاته. واليوم، بعد خمسة وخمسين عاماً على رحيله، ما زالت الحملة الضارية لاغتياله معنوياً مستمرة بلا توقف، كأن الرجل لم يرحل قط، وكأن أعداءه ما زالوا يخشون حضوره الحي في الوجدان العربي.