محمد وردي .. عاشت مصر حرة والسودان

محمد وردي .. عاشت مصر حرة والسودان
مطالعة كل الأخبار من كل العالم، ما استطعت إليه سبيلا، هي أحد أهم عاداتي الممتدة من الطفولة ولم تنقطع بالتقادم، بل اصبحت اكثر عمقاً وتحليلاً، كما باتت متنوعة في المجالات والنطاق الجغرافي .. اليوم، بينما أُمارس الطقس اليومي في مطالعة الأخبار، وجدت خبر عن اعلان الحكومة السودانية مُمثلة في المجلس الانتقالي برئاسة الفريق البرهان عام ٢٠٢٢ عاماً ثقافياً لتكريم المطرب السوداني الراحل "محمد وردي" .. توقف الزمن لبرهة، قبل أن تبدأ آلة الزمن في إعادتي لثلاثين عاماً مضت، وجدت طفولتي التي قضيتها منذ الميلاد في العاصمة السودانية "الخرطوم" وامتدت حتي المرحلة الإعدادية، كان العود حميداً لتلك الأيام التي شهدت لبنة النشأة وأسفار التكوين، وكانت العودة مُبهجة وثرية كتلك الأيام، التي تعلمت فيها أن الأوطان عظيمة، وأن التكامل بينها غاية سامية .. حين كان يشهد منزل جدي لوالدتي - رحمة الله عليه - في قلب الخرطوم لقاءات الجالية المصرية والجاليات العربية والبعثات الدبلوماسية، وكانت النقاش ثري المضمون، واسع المجال، ممتد الأثر، دون جدال أو حماقة أو تجاوز للحدود، متنوع الثقافات، متناغم حضارياً .. فلا تخوين ولا تسفيه ولا تطرف ولا تدليس .. وحين كنت اهتف كل صباح في فناء المدرسة المصرية الإنجيلية بالسودان، ويهتف الزملاء من السودان والعراق وسلطنة عمان وفلسطين وكذا بعض الجنسيات الأوروبية "عاشت مصر حرة والسودان .. دامت أرض وادي النيل أمان" خاتمين إنشادنا الصباحي بمقطع هو الأروع "السودان لمصر .. ومصر للسودان" .. تلك الأيام التي كنت أُصلي المغرب والعشاء بكنيسة السيدة العذراء على ضفاف النيل الخالد بالخرطوم لارتباطي بالتدريب الأسبوعي للكشافة البرية بها .. تلك الأيام التي أدين لها بعشقي للوطن عن قناعة بأثره وكينونته، وبامتداد هذا الآثر لحدود أبعد بكثير مما يتصور الغالب من أبنائه.
ولعل من أبرز ما تميزت به السودان في هذه الفترة هو هذا الحجم من التنوع الثقافي والزخم الفني، ما بين غناء وأدب وفنون شعبية ومؤتمرات ثقافية شهدتها "قاعة الصداقة" المواجهة لجزيرة "توتي" حيث يلتقي النيل الأبيض بشقيقه الأزرق استعدادا للانطلاق سوياً حيث منتهى الرحلة على أرض المحروسة مصر .. وقد كان الفنان الراحل محمد وردي من رواد ورموز الغناء السوداني النوبي كونه من أهل شمال السودان الأقرب لنا في مصر ثقافة وكذا في العادات والتقاليد، وربما كان رصيده من الغناء هو الأعلى بين ابناء جيله من المطربين السودانيين والذي بلغ ما يقرب من ٢٥٠ أغنية ، وقد ألهم محمد وردي العديد من المطربين في السودان ومصر واثيوبيا واوغندا وكينيا، حيث اصبحت اغنياته منهجاً وسبيلا يُسترشد به، وقد غنى له المطرب المصري الرائع محمد منير أغنية "في وسط الدايرة" رائعة الكلمات والألحان، ومما تذكرته أيضا في رحلتي مع آلة الزمن، هو ارتباط حركة الشعب السوداني في الستينيات ضد الفريق إبراهيم عبود بأغنية "وردي" الشهيرة التي كتبها له الشاعر السوداني العظيم محمد الفيتوري وتقول كلماتها "أصبح الصبح.. ولا السجن ولا السجان باقي.. وإذا الفجر جناحان يرفان عليك.. وإذا الحزن الذي كحل هاتيك المآقي.. والذي شد وثاقا لوثاق.. والذي بعثرنا في كل وادي.. فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي"، وقد عبرت هذه الأغنية عن ميول "وردي" القومية ذات الميل اليساري قليلا، والتي جعلته في طليعة من رفضوا نظام "الإنقاذ" اليميني النزعة، الإخواني التوجه، فهاجر إلى مصر عام ١٩٨٩ مستقراً بها ومخلصاً لوطنه وقضيته وفنه، وقد احسنت استقباله، فلقى بها ما يليق من تكريم على المستويين الشعبي والرسمي، وكانت أرضها كريمة معه كالأرض الطيبة التى أتى منها، حيث تم تكريمه من وزير الإعلام المصري عام ٢٠٠٨.
"عليك الزحف مُتقدِّم وليك الشعب مُتلَملِم ومتحزم، يقول سلم، سلم، وما بتسلم.. سلم عبايتنا وملاحفنا، ومصاحفنا وجوامعنا وكنايسنا، وتراث أجدادنا سلمنا، عقول أولادنا سلمنا" .. بتلك الكلمات واجه "محمد وردي" نظام الإخوان الايدلوجي المتطرف، مستدعياً روح الأمة السودانية الوطنية لمواجهة من أرادوا أن يسلبوها هويتها، وبصمتها الثقافية، وموروثها الحضاري .. وكأنه يغني بصوت البشرية كلها ضد أولئك الذين يبيعون الاوطان ويشترون بدين الله ثمنا قليلا.
توفي محمد وردي عام ٢٠١٢ بعد حياة امتدت لثمانين عاماً من فيض الحب للوطن والفن والحياة، وترك لنا ميراثاً من الذكريات الطيبة كالأرض التي نبت منها، و كالنيل الذي جمع جنوب الوادي بشماله .. عادت بي آلة الزمن فوجدتني اتمتم "وسط الدايرة .. يا أجمل نايرة.. خلي قلوبنا تطير .. وأرحلي بينا فراشة حنينة .. بين زينات وعبير" .. وعدت للواقع داعياً للوردي بالرحمة، ممتناً لمن قرر تكريمه.