تركة جمال عبد الناصر .. أين ذهبت؟ ومن بددها؟!!

تركة جمال عبد الناصر .. أين ذهبت؟ ومن بددها؟!!
بقلم : عمرو صابح
قامت ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر فى ظروف محلية و عربية وإقليمية بالغة الخطورة .
كانت مصر مجتمع تسوده العلاقات شبه الإقطاعية و الرأسمالية المتخلفة ، وكان المحتل البريطانى يسيطر على كل مقدرات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، مدعوما بجيشه المكون من 80 ألف جندى بريطانى، ومن الطبقة العميلة التى أنشأها من المصريين ، ومن الجاليات الأجنبية التى استوطنت مصر ،لتمص خيراتها وتنهب ثرواتها ، ومن الأسرة المالكة الدخيلة التى غرقت فى الفساد والانحلال ، وأصبحت فضائحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على كل لسان.
وكان حزب الوفد قد تخلى عن قيادة الحركة الوطنية منذ موقفه المعيب فى 4 فبراير 1942 ، وأصبح حزبا للأغنياء جدا ،وظهرت انتماءاته اليمنية الرجعية المعادية لمصالح الأغلبية .
كان المشروع القومى لحكومة الوفد الأخيرة قبل الثورة هو مكافحة الحفاء!! .
هل توجد مهانة تعادل ذلك ؟!
وكانت قوى سياسية أخرى كالإخوان المسلمين والشيوعيين والاشتراكيين تتحرك على الساحة ،ولكنها جميعا كانت عاجزة عن التحرك الجدى لإشعال ثورة تستولى بها على النظام السياسى المترنح والمأزوم .
وجاء حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 ،كإعلان إفلاس لما أصطلح على تسميته الحقبة الليبرالية فى تاريخ مصر المعاصر من 1923 – 1952.
وعلى الساحة العربية ، تفتت الوطن العربى إلى دول ودويلات واقعة تحت سيطرة الاستعمار الإنجليزى والفرنسى والأمريكى الجديد الداخل إلى المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية .
وكانت إسرائيل قد تم زرعها عنوة فى قلب العالم العربى على أرض فلسطين، لتفصل العالم العربى لمشرق ومغرب ، ولتعمل كقاعدة إمبريالية لحماية مصالح الغرب فى أهم منطقة إستراتيجية بالنسبة للغرب ، تحتوى على مخزون النفط الأول فى العالم ، ولوأد أى مشروع نهضوى عصرى قومى فى الوطن العربى.
وعلى الصعيد العالمى ، كانت الحرب الباردة مشتعلة بين المعسكرين الرأسمالى و الإشتراكى على مناطق النفوذ وفرض السيطرة .
فى تلك الظروف ،تفجرت ثورة جمال عبد الناصر فى مصر ، عندما تسلم عبد الناصر حكم مصر، كانت مصر دولة فقيرة متخلفة صناعيا ، محصولها الزراعى الأساسى هو القطن الذى كان حكرا بيد طبقة من الإقطاعيين والمضاربين والأجانب.
كان الاقتصاد المصرى متخلفاً وتابعاً للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية .
كان هناك 960 شخصا فقط يسيطرون على كل الوظائف الأساسية فى مجالس إدارات الشركات الصناعية ، من بين هؤلاء نجد 265 مصرى فقط .
وكان بنك باركليز الإنجليزى يسيطر وحده على 56 % من الودائع ، وكان بنك مصر قد تمت السيطرة عليه من جانب رؤوس الأموال الإنجليزية والأمريكية .
كان الاقتصاد المصرى عاجزا بسبب ارتباطه بالمصالح الأجنبية عن طريق البنوك و شركات التأمين والتجارة الخارجية فى الصادرات والواردات ، وكانت كل مرافق الاقتصاد المصرى بيد الأجانب واليهود .
الأمر الذى دعا الإقتصادى المصرى الكبير الدكتور عبد الجليل العمرى أن يصف اقتصاد مصر بقوله : ( لقد كان الاقتصاد المصرى كبقرة ترعى فى أرض مصر ، ولكن ضروعها كانت كلها تحلب خارج مصر).
إن الوثائق التاريخية تقدم لنا حقائق حالكة السواد عن أوضاع مصر الداخلية قبل الثورة.
كانت أخر ميزانية للدولة عام 1952 ، تظهر عجزا قدره 39 مليون جنيه .
كانت مخصصات الاستثمار فى مشروعات جديدة طبقا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفر .
كما أن أرصدة مصر من الجنيه الإسترلينى المستحق لها فى مقابل كل ما قدمته من سلع وخدمات وطرق مواصلات لخدمة المجهود الحربى للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية ، وكانت 400 مليون جنيه إسترلينى قد تم تبديدها، ولم يتبق منه إلا 80 مليون جنيه إسترلينى .
( أثارت جريدة الوفد فى الثمانينيات من القرن الماضى ، هذه القضية عن كون مصر كانت دائنة لبريطانيا قبل الثورة ، والوثائق تثبت أن المبلغ المتبقى من الدين وهو 80 مليون جنيه أسترلينى ،رفضت بريطانيا إعطاؤه لمصر طوال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر ،نكاية فى عبد الناصر وسياساته ضدها ، ولم تفرج عنه إلا فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى فى عهد السادات .
كان النهب الذى لحق بالأرض الزراعية فى مصر طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، نهب احتكرته أسرة محمد على فى البداية ثم أباحت نصيبا منه للمرابين الأجانب ، ولطبقة من المصريين محدودة جدا ،عملت على خلقها لكى تكون ظهيرا لها أمام الغالبية من المصريين الفقراء.
عندما احتل الإنجليز مصر فى عام 1882 ، عملوا على خلق طبقة تدين لهم بالولاء ، وتتبنى نمطهم الحضارى ، ووزعوا على أفرادها ألاف الأفدنة ، فى ظل ظروف مريبة وشديدة القسوة على الفلاح المصرى المقهور الذى تم تركه فريسة للجهل والفقر والمرض ، لا يمتلك إلا جلبابا واحدا ، ولا يجد قوت يومه ، ويعامل كالعبيد لخدمة أسياده من الإقطاعيين.
وكانت شركة قناة السويس تجسد المأساة المصرية بكل أبعادها ، فالقناة التى حفرت فى أرض مصر وبأيدى عشرات الآلاف من المصريين الذين جرت دماؤهم فيها قبل أن تجرى مياه البحر ، تم سرقتها من مصر ، وأصبحت شركة قناة السويس دولة داخل الدولة لها علم خاص وشفرة خاصة وجهاز مخابرات خاص وحى خاص محرم دخوله على المصريين.
كان رئيس الشركة يعامل كرؤساء الدول محاطا بكل مراسم التبجيل والاحترام ، ولايجرؤ مسئول مصرى على حسابه عن شئ .
و تثبت الوثائق الأمريكية و الفرنسية والإسرائيلية ، أن هذه الشركة دفعت من أموال مصر 400 مليون جنيه إسترلينى لدعم الجهد العسكرى للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية ، كما قامت بدفع مبالغ مالية طائلة ، تُقدر بعشرات الملايين للحركة الصهيونية فى فلسطين كتبرعات داعمة للمشروع القومى لليهود .
وبعد قيام إسرائيل ، أقامت معها إدارة شركة قناة السويس مكاتب للتنسيق المعلوماتى والمخابراتى للتواصل مع جهاز الموساد ، كما واصلت دفع الأموال المصرية للكيان الصهيونى دعماً له .
كانت خطط الشركة المستقبلية كلها مرتكزة على تمديد عقد امتياز القناة لمدة 99 عاما جديد .
كانت خيرات و ثروات مصر مسلوبة من أهلها ، تمتصها طبقات عميلة وأسرة حاكمة دخيلة وأجانب مرابون ويهود مستغلون.
لم تكن مصر ملكا لأهلها
لم تكن لمصر سياسة خارجية مستقلة ، بل كانت سياستها تدور فى فلك الساسة البريطانية .
عندما قرر الملك فاروق أن يدخل حرب فلسطين ، فشل الجيش المصرى فى المعركة بسبب خيانة الجيوش العربية الأخرى ونقص الاستعداد ، ورداءة التسليح ، وغياب الكفاءة عن القيادات ، وسوء التخطيط ، وترتب على الهزيمة ضياع 78 % من مساحة فلسطين التاريخية وإقامة الدولة اللقيطة .
تسلم جمال عبد الناصر الحكم فى مصر وأوضاعها بهذا الشكل المأساوى وبعد طرد الملك فاروق فى 26 يوليو 1952 .
صدر قانون الإصلاح الزراعى الأول فى 9 سبتمبر 1952
يتكون القانون من 6 أبواب تشمل 40 مادة ، حددت المادة الأولى الحد الأقصى للملكية الزراعية بـ 200 فدان للفرد، وسمحت المادة الرابعة للمالك أن يهب أولاده مائة فدان.
سمح القانون للملاك ببيع أراضيهم الزائدة عن الحد الأقصى لمن يريدون، وأعطى لهم الحق في تجنب أراضي الآخرين المبيعة.
كما قرر القانون صرف تعويضات للملاك، فلقد قدرت أثمان الأراضي بعشرة أمثال قيمتها الإيجارية، وأضيف إليها الملكيات والتجهيزات الأخرى (الأشجار والآلات) القائمة على الأرض بقيم عالية.
نظم القانون صرف التعويضات بسحب مستندات على الحكومة تسدد على مدى ثلاثين عاما بفائدة سنوية قدرها .
قرر القانون توزيع الأراضي الزائدة على صغار الفلاحين بواقع (2 إلى 5 أفدنة)، على أن يسددوا ثمن هذه الأراضي على أقساط لمدة ثلاثين عاما ، وبفائدة 3% سنويا، يضاف إليها 1.5% من الثمن الكلي للأرض؛ وفاء للموجودات التي كانت على الأرض (الأشجار الآلات... الخ).
تناول الباب الثاني من القانون تنظيم الجمعيات التعاونية في الأراضي الموزعة.
أما الباب الرابع فقد حدد عددا من الإجراءات لمنع تفتيت الأراضي الموزعة، كما حدد ضريبة جديدة للأرض.
تناول الفصل الخامس العلاقة بين الملاك والمستأجرين.
أما الفصل السادس والأخير فيتعلق بوضع حد أدنى لأجور عمال الزراعة، وبإعطائهم الحق في تنظيم نقاباتهم الزراعية.
بلغ مجموع الأراضي التي يطبق عليها قانون سبتمبر سنة 1952 مساحة 653,736 ألف فدان تنتمي إلى 1789 مالكا كبيرا، ولكن الأرض التي طبق عليها القانون في واقع الأمر بلغت 372,305 آلاف فدان، أما البقية وهي حوالي النصف فقد قام الملاك ببيعها بأساليبهم الخاصة حتى أكتوبر سنة 1953، حينما ألغت الحكومة النص الذي كان يتيح للملاك بيعها بأساليبهم .
صدر قانون الإصلاح الزراعى الثانى عام 1961، وهو القانون ( رقم 127 لسنة 1380هـ=1961م)، وأهم ما في هذا القانون ، هو جعل الحد الأقصى لملكية الفرد 100 فدان، يضاف إليها 50 فدانا لبقية الأسرة (الأولاد) للانتفاع فقط، وتحريم أي مبيعات للأرض من المالك لأبنائه، كما ألغى القانون الاستثناءات السابقة الخاصة بالأراضي قليلة الخصوبة.
وتقدر الأراضي التي آلت إلى "الإصلاح الزراعي" نتيجة هذا القانون بـ214,132 ألف فدان.
ثم صدر قانون الإصلاح الزراعى الثالث عام 1969 ،وهو القانون رقم 50 لسنة 1969 والذي جعل الحد الأقصى لملكية الفرد 50 فدانا.
تقول الإحصائيات الرسمية بأنه حتى سنة 1969 ، تم توزيع 989,184 ألف فدان على الفلاحين ، منها 775,018 ألف فدان تم الاستيلاء عليها وفقا لقوانين الإصلاح الزراعي، ، و184,411 ألف فدان كانت تتبع بعض المؤسسات المختلف، أما الباقي وقدره 29,755 ألف فدان ، كان حصيلة أراضي لطرح لنيل، ووفقا لنفس هذه الإحصائيات الرسمية ، فقد وزعت تلك الأراضي على 325,670 ألف أسرة،
كما تم إنشاء الجمعيات الزراعية فى كل قرى مصر ، وقامت الدولة عبر هذه الجمعيات بعمل نظام تخطيط شامل للزراعة على امتداد الجمهورية فتولت الدولة تحديد أنواع المحاصيل المزروعة وقدمت للفلاحين البذور والمبيدات و الأسمدة ، كما قامت بشراء المحاصيل من الفلاحين .
كان تفتيت الملكية الزراعية فى ظل التخطيط الشامل للزراعة عبر الدورة الزراعية ، يقضى على مشكلة البطالة ، ويرفع المستوى الاقتصادى للفلاح المصرى فى إطار موازى لخطة الدولة الاقتصادية بتحقيق اكتفاء ذاتى من المحاصيل الزراعية.
و كان الأهم و الأعظم من كل ذلك هو التغير الذى طرأ على أوضاع الفلاح المصرى وأسرته ، حيث دخلت المدارس والوحدات الصحية إلى القرى ، وارتفعت نسبة الوعى و معدلات التعليم وتحسنت الأوضاع الصحية والاقتصادية فى الريف بفضل الثورة .
وكان أضخم وأهم مشروعات الثورة ، وهو السد العالى من أجل الزراعة فى المقام الأول ، حيث وفر كميات المياه اللازمة لتحويل رى الحياض إلى رى دائم ، وبفضله تم استصلاح ما يقرب من 2 مليون فدان .
وقد استطاعت مصر فى عهد عبد الناصر ، أن تحقق الاكتفاء الذاتى من كل محاصيلها الزراعية ماعدا القمح الذى حققت منه 80% من احتياجاتها .
وفى عام 1969 وصل إنتاج مصر من القطن إلى 10 ملايين و800 ألف قنطار ، وهو أعلى رقم لإنتاج محصول القطن فى تاريخ الزراعة المصرية على الإطلاق .
وصلت المساحة المزروعة أرز فى مصر إلى ما يزيد على مليون فدان ، وهى أعلى مساحة زرعت فى تاريخ مصر .
كما تم تجربة زراعة أنواع جديدة من القمح كالقمح المكسيكى ، والقمح جيزة 155 .
وفى المجال الصناعى تم إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى فى سبتمبر 1952 .
وقام المجلس بإصدار خطة الاستثمارات العامة فى يوليو 1953، وهى خطة طموحة لمدة 4 سنوات بدأت بمقتضاها الدولة باستصلاح الأراضى.
وبناء مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب.
و شركة الأسمدة كيما.
ومصانع إطارات السيارات الكاوتشوك.
ومصانع عربات السكك الحديدية سيماف.
ومصانع الكابلات الكهربائية.
وبعد السد العالى، وفى الستينات تم مد خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية ،
كم تم بناء المناجم فى أسوان والواحات البحرية.
وتم تمويل كل هذه المشروعات ذاتيا.
فى 26 يوليو 1956 أمم الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس ، وردها إلى مصر.
عقب فشل العدوان الثلاثى ، تم تمصير وتأميم ومصادرة الأموال البريطانية والفرنسية فى مصر.
وتم إنشاء المؤسسة الاقتصادية عام 1957 ، و التى تعتبر النواة الأولى للقطاع العام المصرى ، وألت إليها كل المؤسسات الأجنبية الممصرة .
وفى 13 فبراير 1960 ، أمم الرئيس عبد الناصر بنك مصر أكبر مصرف تجارى فى البلاد ، وكل الشركات الصناعية المرتبطة ، بعدما سقط هذا الصرح العملاق تحت سيطرة الاحتكارات البريطانية و الأمريكية أسترده عبد الناصر لمصر.
وفى يوليو 1961 ، صدرت القرارات الاشتراكية ، وبدا واضحا أن النظام يتجه نحو نوع من الاقتصاد المخطط تحت إشراف الدولة وبقيادة القطاع العام.
وقد استطاعت مصر عبر تلك الإجراءات ، تحقيق نسبة نمو من عام 1957 – 1967، بلغت ما يقرب من 7 % سنويا ومصدر هذا الرقم تقرير البنك الدولى رقم [870 - أ] عن مصر الصادر فى واشنطن بتاريخ 5 يناير 1976.
وهذا يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات من عصر عبد الناصر، أن تقوم بتنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على عصر عبد الناصر.
كانت تلك نتيجةً لا مثيل لها فى العالم النامى كله ، حيث لم يزد معدل التنمية السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة خلال تلك الفترة عن اثنين ونصف فى المائة ، بل أن هذه النسبة كان يعز مثيلها فى العالم المتقدم باستثناء اليابان، وألمانيا الغربية، ومجموعة الدول الشيوعية.
فمثلا ايطاليا وهى دولة صناعية متقدمة ، و من الدول الصناعية الكبرى حققت نسبة نمو عن تقدر ب4.5 % فقط فى نفس الفترة الزمنية .
وبدأت مصر مع الهند و يوغوسلافيا منذ بداية الستينيات مشروعا طموحا لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة .
وحتى سنة 1967 كانت مصر متفوقة على الهند فى صناعة الطائرات والمحركات النفاثة .
وتم صنع الطائرة النفاثة المصرية القاهرة 300 .
وصنعت مصر أول صاروخين من إنتاجها بمساعدة علماء الصواريخ الألمان ، ولكن شابهما عيوب فى أجهزة التوجيه .
فى عام 1966 كان الفارق بين البرنامج النووى المصرى ونظيره الإسرائيلى عام ونصف لصالح البرنامج النووى الإسرائيلي ، ورغم النكسة كانت مصر على وشك تحقيق توازن القوى فى المجال النووي بينها وبين إسرائيل بحلول سنة 1971 .
للأسف الشديد بعد حرب أكتوبر 1973 ، أوقف الرئيس السادات كل هذه المشاريع وأنهى وجودها ، ولننظر الأن إلى أى مدى وصلت الهند فى مجال الصواريخ والطائرات والسلاح النووى ، لندرك مدى بعد نظر جمال عبد الناصر وخطورة مشروعه النهضوى على المشروع الأمريكى الصهيونى فى المنطقة .
فى عام 1965 وبعد أن أكملت مصر خطتها الخمسية الأولى، بلغ الناتج المحلى الإجمالى المصرى نحو 5.1 مليار دولار، بينما كان نظيره السعودى نحو 2.3 مليار دولار فى العام نفسه. أما دولة الإمارات فلم تكن قد تأسست بعد. وبلغ الناتج المحلى الإجمالى لكل من تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة بالترتيب نحو 4390، 3840، 3130، 3000، 970 مليون دولار فى العام المذكور.
أى أن كل دولة من هذه الدول كانت تأتى خلف مصر فى حجم الناتج المحلى الإجمالي.
فى يوم 5 يونيو 1967 ، جاء يوم الحساب لتجربة ومشروع جمال عبد الناصر
فى الحرب التى وصفها الرئيس الفرنسى شارل ديجول بأنها ( المعركة أمريكية و الأداء إسرائيلى).
ورغم عنف الضربة وفداحة الهزيمة العسكرية .
هل انهارت مصر وانتهت ، كما يحاول البعض من مدمنى تكريس الهزيمة إقناعنا ، أن حرب 1967 هى سبب كل مشاكل مصر ؟!!
بإلقاء نظرة على أوضاع مصر عقب الهزيمة يتضح لنا الأتى:
تحمل الاقتصاد المصرى تكاليف إتمام بناء مشروع السد العالى العملاق ، ولم يكتمل بناء هذا السد إلا سنة 1970 قبيل وفاة الرئيس عبد الناصر .
كما تم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادى وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليار جنيه .
وفى ظل النكسة حافظت مصر على نسبة النمو الإقتصادى قبل النكسة .
بل أن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا .
وأستطاع الاقتصاد المصرى عام 1969، أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجارى لأول و أخر مرة فى تاريخ مصر بفائض قدرها 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان .
تحمل الاقتصاد المصرى عبء إعادة بناء الجيش المصرى من الصفر ،وبدون مديونيات خارجية.
كانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات مصرية من مأكولات وملابس وأثاث و أجهزة كهربية
وكان الرئيس عبد الناصر يفخر أنه يرتدى بدل وقمصان غزل المحلة ، ويستخدم الأجهزة الكهربائية المصرية ( ايديال ).
ترصد تقارير البنك الدولى بعض مظاهر التحول الاجتماعى العميق الذى شهدته مصر مابين عامى (1952- 1970) :
زادت مساحة الأرض الزراعية بأكثر من 15% .
ولأول مرة تسبق الزيادة فى رقعة الأرض الزراعية الزيادة فى عدد السكان .
لقد كان جمال عبد الناصر أول حاكم مصرى منذ عهد قدماء المصريين يوسع رقعة وادى النيل.
زاد عدد الشباب فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا بأكثر من 300 %.
زادت مساحة الأراضى المملوكة لفئة صغار الفلاحين بما يقارب الضعف ، من 2,1 مليون فدان إلى حوالى 4 مليون فدان .
حدث تقدم ملحوظ فى مجال المساواة ، والعدالة الاجتماعية فى المدن أيضا بفعل الضرائب .
تم وضع حدود دنيا وعليا للرواتب والمرتبات ، فلا أحد يعيش برفاهة وبذخ ولا أحد يعيش دون مستوى الكفاف .
وقبيل وفاة الرئيس عبد الناصر أتمت مصر بناء حائط الصواريخ الشهير، وأتمت خطط العبور وتحرير الأرض العربية كلها وليس تحريك الموقف .
وبقبول الرئيس عبد الناصر لمبادرة روجرز .
أستطاع أبطال القوات المسلحة تحريك حائط الصواريخ العظيم حتى حافة قناة السويس .
وبذلك تم إلغاء دور الطيران الاسرائيلى ذراع إسرائيل الطويلة فى الهجوم على مصر غرب قناة السويس
و أصبح اندلاع حرب التحرير،وعبور الجيش المصرى للضفة الشرقية مسألة وقت .
كان الرئيس عبد الناصر يقدرها بزمن لا يتأخر عن أبريل 1971.
وقبيل وفاة الرئيس صدق على الخطة جرانيت ، وهى خطة العبور التى نفذ الجزء الأول منها فى ظهيرة يوم 6 أكتوبر 1973.
كما صدق على الخطة 200 ، وهى الخطة الدفاعية التى تحسبت لحدوث ثغرة فى المفصل الحرج بين الجيشين الثانى والثالث المصرى .
ومن عجائب القدر ، أن الثغرة حدثت كما توقعت الخطة 200 بالضبط عقب قرار الرئيس السادات المتأخر بتطوير الهجوم المصرى يوم 14 أكتوبر 1973 .
صعدت روح الرئيس عبد الناصر إلى بارئها ، واقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية ، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولى .
وثمن القطاع العام الذى بناه المصريون فى عهد الرئيس عبد الناصر بتقديرات البنك الدولى بلغ 1400 مليار دولار .
ولدى مصر أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث .
كان عدد المصانع التى أنشأت فى عهد عبد الناصر 1200 مصنع منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية وإستراتيجية .
تم بناء السد العالى أعظم مشروع هندسى وتنموى فى القرن العشرين باختيار الأمم المتحدة ، والذى يعادل فى بناؤه 17 هرم من طراز هرم خوفو .
تم خفض نسبة الأمية من 80% قبل 1952 إلى 50% عام 1970 ، بفضل تطبيق مجانية التعليم فى كل مراحل الدراسة .
المجانية التى أنجبت لنا علماء من طراز ( أحمد زويل ، محمد النشائى ، مجدى يعقوب ، مصطفى السيد ، يحيى المشد ، سعيد بدير ) ، وغيرهم كثيرون رغم كل افتراءات خصوم عبد الناصر وسياساته الطموحة ، وليقرأ من يريد مذكرات هؤلاء العلماء الأفذاذ عن الرئيس عبد الناصر وعهده .
تم دخول الكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والوحدات الصحية والجمعيات الزراعية إلى عدد كبير من قرى مصر .
تم ضمان التأمين الصحى والإجتماعى والمعاشات لكل مواطن مصرى
كل ذلك بدون ديون تقريباً.
فمصر فى ليلة وفاة الرئيس عبد الناصر ، كانت ديونها حوالى مليار دولار ثمن أسلحة أشترتها من الاتحاد السوفيتى.
لم تكن عملة مصر مرتبطة بالدولار الأمريكى ، بل كان الجنيه المصرى يساوى ثلاثة دولارات ونصف ، ويساوى أربعة عشر ريال سعودى بأسعار البنك المركزى المصرى.
رحل الرئيس عبد الناصر ، والجنيه الذهب ثمنه 4 جنيه مصرى .
وبعد رحيل الزعيم ، دخلت مصر حرب أكتوبر وهى محكومة بكل آليات النظام الناصرى .
القطاع العام الذى يقود التنمية .
الجيش المصرى الذى بناه عبد الناصر عقب الهزيمة .
حائط الصواريخ الذى حركه عبد الناصر لحافة القناة قبيل وفاته .
والخطط العسكرية الموضوعة منذ عهده .
لم يكن فيما قام به الرئيس جمال عبد الناصر معجزة أو أمر خارق للمألوف.
بل إن ذلك هو الطبيعى لبلد مثل مصر حباه الله كل المميزات والإمكانيات والثروات ليصبح دولة كبرى.
امتزج موقع مصر العبقرى وإمكاناتها وثرواتها مع وطنية الرئيس جمال عبد الناصر وطموحه ورؤيته المستقبلية لمصر ، مما أدى لكل هذا النجاح الذى تم فى فترة محدودة من عمر الزمان ، لا تزيد عن 18 سنة ، شابتها الكثير من المؤامرات والحروب لإجهاض المشروع الناصرى.
وبوفاة الرئيس عبد الناصر ، والانقلاب الذى تم فى السياسات المصرية عقب حرب أكتوبر 1973 ، بدأت معاول الهدم تضرب فى الصرح العملاق لتركة الرئيس جمال عبد الناصر فى مصر ..
المصادر :
كتاب ( عبد الناصر كيف حكم مصر ؟ ) : عبد الله إمام
كتاب ( لمصر لا لعبد الناصر ) : محمد حسنين هيكل
كتاب ( ملفات السويس ) : محمد حسنين هيكل
كتاب ( النهب الثالث لمصر ) : سعد الدين وهبه
كتاب ( عبد الناصر ) : روبرت ستيفنس - محمد عودة
كتاب ( جمال عبد الناصر ) : أجاريشيف
كتاب ( الإنسان موقف ) : محمود أمين العالم
كتاب ( مذكرات سامى شرف) ج1 ، ج2
كتاب ( الانهيار بعد عبد الناصر لماذا ؟ ): عادل حسين
كتاب ( ماذا حدث للمصريين ) : جلال أمين
تقارير الأمم المتحدة و البنك الدولى المشار إليها.
فصل من كتاب (معارك ناصرية .. قراءة جديدة فى تاريخنا المعاصر) : عمرو صابح - الطبعة الأولى 2011.