العلاقات المصرية الأوزبكية .. إضاءة تاريخية وأشواق للمستقبل
بقلم الدكتور/ مجدي زعبل
المستشار الثقافي الأسبق للسفارة المصرية بجمهورية أوزبكستان ( 2005- 2008 )
قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة هامة إلى جمهورية أوزبكستان في شهر سبتمبر 2018 وهي الزيارة التي افتتحت عهدًّا جديدًّا في العلاقات بين البلدين ، وقد عكس أهمية الزيارة أولًّا لأنها أول زيارة لرئيس مصري بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958 ، وثانيًّا لأنها تأتي ، وقد تشكل في الشرق الآسيوي حزام دولي ناهض تعبر عنه منظمة شنغهاي للتعاون بكل ما تمثله من ثقل في الأوزان النسبية للدول المؤسسة لها وعلى رأسها روسيا والصين وأوزبكستان ، وترتبط مصر مع هذه الدول بعلاقات قوية ، ثم تكتمل الأهمية ثالثًّا في حجم وطبيعة الاتفاقيات الموقّعة بين البلدين والتي تتمثل في : البيان المشترك لرئيس جمهورية أوزبكستان شوكت ميرضيائيف ورئيس جمهورية مصر العربية عبد الفتاح السيسي وبرنامج التعاون بين وزارتي الخارجية بالبلدين خلال عامي 2019 – 2020 ومذكرة التفاهم بين لجنة الدولة للاستثمار بجمهورية أوزبكستان والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة في مصر في مجال تعزيز العلاقات الاستثمارية الثنائية ، وكذلك مذكرة التفاهم في مجال الشباب بين اتحاد شباب جمهورية اوزبكستان ووزارة الشباب والرياضة في مصر والاتفاق بين البلدين في مجال السياحة وأيضا اتفاقية إزالة الازدواج الضريبي بين البلدين بالنسبة للضرائب على الدخل ورأس المال ومنع التهرب الضريبي وكذلك الاتفاق بشان التعاون في مجال التعليم العالي واتفاقية الإعفاء من الحصول على التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والاتفاق في مجالات الاثار والتراث الثقافي والمتاحف والعدل . جملة هذه الاتفاقيات تعكس حرص مصري -أوزبيكي مشترك على تطوير وتعميق التعاون بين البلدين .
وبما أننا نتحدث عن أوزبكستان ،ونصبو إلى تكامل أوسع وأعمق معها فحري بنا أن نقدم للقارئ المصري والعربي نبذة تاريخية عن هذه البلاد الرائعة وتاريخها المليء بالعلماء الكبار الذين أثروا الحضارة الإنسانية بفيض علومهم الموسوعية التي سادت لمدة ستة قرون كاملة من القرن التاسع الميلادي حتى بداية عصر النهضة في كل مجالات المعرفة الإنسانية من الطب إلى الفلك إلى الكيمياء إلى علم الجبر وعلم الكلام والفلسفة وعلوم الدين والفقه والحديث والموسيقى حتى الموسيقى فنشير إلى الأعمال الخالدة لابن سينا والفارابي ( وكتابه الرائد :الموسيقي الكبير ) وبن زيله وكتابه الأثير (الكافي في الموسيقى ) وغيرهم .
1- أوزبكستان – قوة التاريخ وازدهار الحضارة
تتمتع جمهورية أوزبكستان بموقع قاري فريد في قلب آسيا الوسطى؛ ففيها يتقاطع طريق الحرير القديم / المتجدد (في صيغته الحديثة ) مع طريق الفراء , وشهرة طريق الحرير الذي ازدهر في عصر الإمبراطورية الرومانية شهرة تاريخية لاتزال اصداؤها تتردد إلى اليوم وهو الطريق الذي امتد من الصين إلى أوروبا والشرق الأوسط عبورًا بالمدن الكبرى في أوزبكستان مثل بخاري وفرغانة وسمرقند وطشقند وخيوة وكان هذا الطريق شريانًّا تمر عبره التجارة والثقافة والأفكار والفنون والحرف الشعبية وتتداخل وتتبادل العادات والتقاليد التي ما أن تستقر ترحل تاركة أثرها للأجيال , ومع هذه الأصداء التاريخية تبرز أهمية إضافية لطريق الحرير في صيغته المتطورة حديثاّ المسماة استراتيجية "الطريق والطوق " والتي تعني بناء فلسفة جديدة تقوم على الأبعاد الاقتصادية والثقافية والأمنية للدول المتشاركة في طريق الحرير مع خلق حواضن اقليمية معاونة لدول المجرى الرئيسي للطريق الذي يربط أقصى الشرق الآسيوي بأوروبا عبر الشرق الأوسط حيث توجد مصر بثقلها الإقليمي والدولي , وأيضا بموقعها الفريد في قلب العالم ، وبدورها الثقافي والحضاري الممتد عبر آلاف السنين .
ولعل وجود " منظمة شنغهاي للتعاون " كما ذكرنا وهي إحدى المنظمات الاقليمية الواعدة والتي تضم في عضويتها المؤسسة دولًّا كبرى مثل روسيا والصين وأيضاّ أوزبكستان والهند وباكستان وجميع هذه الدول تربطها علاقات هامة واستراتيجية بمصر ، الأمر الذي يجعل من مصر عضوًا مراقبًا في هذه المنظمة أمر طبيعي ومرحب به ( وهو الأمر الذي سعت إليه جمعية الصداقة المصرية الأوزبكية ودعمته طوال خمس سنوات تم إقراره في الاجتماع الموسع للمنظمة في دورة عام 2021 بترشيح مزدوج من روسيا الاتحادية وجمهورية أوزبكستان)
والأمر كذلك فإن تطوير العلاقات المصرية الأوزبكية من شأنه أن يعجِّل بالوصول لهدف قبول عضوية مصر لهذه المنظمة الهامة .
هكذا كانت بداية العلاقات العربية مع أوزبكستان عبارة عن علاقات تجارية حملت معها فيما بعد رسالة الإسلام وانتشر بشكل واسع في القرنين السابع والثامن الميلاديين ،وأصبحت مدن مثل بخاري وسمرقند حواضر ومراكز تجارية وثقافية متميزة . وقد اعتبر المؤرخون أن نشر اللغة والثقافة العربية في هذه البلاد كانت من أهم مظاهر التلاقي التاريخي بين العرب وشعوب آسيا الوسطى وفي القلب منها أوزبكستان . إن الزخم الوافر من المدارس العلمية في اوزبكستان والاهتمام الكبير من أهلها بالثقافة العربية جعل من اللغة العربية جسّرا للتواصل والتآخي يحمل ثقافة انسانية ذات قيمة ومعنى ومضمون يربط الحاضر بالمستقبل ، والسبب بالغاية ، والحياة بالأخلاق ، والفلسفة بالوجود ، والوجود بالكون ، والكون بالخالق عزوجل . على أساس هذا الإرث الثقافي والحضاري تعود العلاقات بين مصر وأوزبكستان وكل منهما تمثل قائدة ، ومركز ثقافي وحضاري في عالمها : مصر (قلب العروبة ومنارة العالم الإسلامي ) ، وأوزبكستان (قلب آسيا الوسطى ومنصة انطلاق الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي ) من القرن التاسع إلى القرن السادس عشر الميلاديين.
وعود على بدء يمكن القول أن هذه الطرق القديمة التي قادت التجار العرب إلى هذه البلاد منذ القرن السابع الميلادي ، حين اجتازوا نهر أموداريا (جيحون ) .فعرفت البلاد التي تليه باسم " بلاد ما وراء النهر " هي نفسها الطرق التي تسير عبرها التجارة والثقافة والمصالح وإن كانت أشمل وأسرع في عالمنا المعاصر ، فطريق الحرير القديم تتجدد هويته وتتطور مع بقاء أهدافه ومرامية وعلى امتداد الطريق لم تعد الدول المتشاركة فيه هي نفسها الدول القديمة ، ولكنها دول حديثة مستقلة ومتطورة ولها أهدافها الاستراتيجية التي تعكس مصالح شعوبها ، وحقهم في الحياة الكريمة ، فجمهورية أوزبكستان على سبيل المثال حققت في العشرين عامًا بعد الاستقلال نهضة شاملة شملت كل مناحي الحياة . وفي منتصف الطريق في قلب الدنيا تأتي مصر لتكون إضافة استراتيجية سخية للعابرين من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وسوف يقوم بهذه المهمة محور قناة السويس الاستراتيجي الدولي .
2- مصر وأوزبكستان : خصوصية في التاريخ والمكانة
إلى مصر جاء من أوزبكستان أحمد بن طولون من بخاري ومحمد بن طغج الإخشيد مؤسس الدولة الإخشيدية في مصر والسلطان سيف الدين قطز والسلطان أيبك والأمير أوزبك اليوسفي منشئ حديقة الأزبكية في ضواحي القاهرة آنذاك. عاش الأوزبك في مصر ولاة وحكامًّا وقادة جيوش وأمراء . وأول أسرة حاكمة أسست في مصر دولة مستقلة في اطار الخلافة العباسية ،هي الدولة الطولونية التي أسسها أحمد بن طولون في عام 868 م واستمرت ثمانية وثلاثين عاما . ويعتبر عهد بن طولون وابنه خمارويه من العصور الذهبية في تاريخ مصر لما كان فيهما من التألق العمراني والغنى التجاري حتى بلغ خراج مصر أربعة آلاف وثلاثمائة ألف دينار وقد لعب الطولونيون دورًّا هاما في دفع خطر البيزنطيين عن العالم الإسلامي . وقد تصاهر الطولونيون مع أحد الخلفاء العباسيين حيث تزوجت قطر الندى ابنة خمارويه الخليفة العباسي المعتضد وصار هذا الزواج جزءًّا من التراث الشعبي المصري لما أحيط به من مظاهر الأبهة والترف . ومن بعد الطولونيين جاء محمد بن طغج وأسس الدولة الإخشيدية التي حكمت خمس وثلاثين عاما (945-969 م ) وكان ملكًّا عادلًّا شجاعًّا مقدامًّا حازمًّا حسن التدبير عارفا بالحروب . وقد تصاهر أيضا خانات الأوزبك مع سلاطين مصر في العهد المملوكي فتزوج الملك الناصر بن قلاوون من الأميرة الأوزبكية طلنباي . وقد وصفت المصادر التاريخية المصرية الأوزبك بصفات جيدة تدور كلها حول حسن الإسلام ، وحسن الخلق ، والشجاعة ، والكرم , والهيبة ، وحسن الإدارة العسكرية. وعن آثار الأوزبك في مصر فهي كثيرة جدا نذكر منها مقياس النيل بالروضة الذي انشأه العالم الأوزبكي الأشهر أحمد الفرغاني في عهد الخليفة العباسي المتوكل ، ومسجد ابن طولون ، ومدينة القطائع ، وبستان الإخشيد ، وفنون العمارة الأوزبكية المميزة بالقباب السمرقندية ، ومسجد بن قلاوون ، وحديقة الأزبكية .
3- الاستقلال الوطني : مضامينه وإلهامه
لا يوجد في تاريخ الأمم أغلى من لحظات الاستقلال فهي تعكس وتلخص وتصهر إرادة الأمة نحو غاية مجيدة لا تسبقها أية غاية لأنها " منتهى الغايات " وهو الاستقلال الوطني .
وعليه فإن الحديث عن الإرث الثقافي المشترك بين مصر وأوزبكستان هو المدخل الطبيعي لفهم طبيعة ومعنى العلاقات بين البلدين وهو الجسر القائد لمزيد من التعاون في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية وغيرها .
وفي العصر الحديث فإن كلمة "الاستقلال " بكل مضامينها تعتبر هي المفتاح السحري لفهم وتحليل تطور العلاقات بين البلدين ، فمصر بعد حصولها على الاستقلال بعد ثورة يوليو 1952 اقتربت من أوزبكستان باعتبارها دولة اسلامية ذات تاريخ وحضارة كبرى وقام الرئيس جمال عبد الناصر بزيارة طشقند عام 1958 ، وبرغم أن أوزبكستان كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ، ولكن المعنى لا تخطأه عين أو فهم وهو أن مصر مرت من هنا ومدت جسور الأخوة والمحبة والتعاون مع الشعب الأوزبكي العظيم ، وقد كان الهدف الرئيس من الزيارة هو عقد لقاء " غير معلن " وقتها بطلب الرئيس عبد الناصر مع بهادور شاستري ثاني رئيس وزراء الهند بعد الاستقلال للتباحث في حل قضية كشمير، وقد تم – على هامش الزيارة إدخال اللغة العربية لأول مرة في تاريخ أوزبكستان في هذا العام تكريماًّ - واستجابةّ - لطلب الرئيس جمال عبد الناصر .
بعد حصول أوزبكستان على استقلالها عام 1990 كانت مصر حاضرة بقوة في المشهد واعترفت باستقلال أوزبكستان ، وبادرت بفتح سفارتها في طشقند بعد أربعة أشهر من الاستقلال مباشرة ، ثم افتتحت المركز الثقافي المصري عام 1992 وهو ما يعني حرص مصري أصيل وداعم لمشروع الاستقلال وبناء الدولة الأوزبكية الحديثة . وقد ساهمت مصر على قاعدة الأخوة والمحبة والصداقة في مد يد العون السياسي والفني في مختلف المجالات حيث وفّر الصندوق المصري للتعاون مع دول الكومنولث منحًّا تدريبية متخصصة في مجالات نقل الخبرة والتدريب في المراكز والمعاهد العلمية المصرية وشملت اكاديمية الشرطة والمعهد المصرفي ومعهد الدراسات الدبلوماسية والجهاز المركزي للتنظيم والادارة ومركز المعلومات واتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء والهيئة العامة للتنشيط السياحي والمعهد القومي للنقل والمركز الدولي للزراعة ، واتحاد الاذاعة والتليفزيون ، والمركز الدولي للتدريب والاستشارات ، وهيئة كهرباء مصر ، ومعهد التبين للدراسات المعدنية ، وقد انعكس كل هذا التفاعل في زيارة تاريخية للرئيس الأوزبيكي الراحل إسلام كاريموف لمصر بعد الاستقلال مباشرة عام 1992 وأعقبها بزيارة ثانية عام 2007 وهي الزيارات التي تمخض عنها جملة اتفاقيات هامة في المجالات الاقتصادية والعلمية والفنية والنقل الجوي وتشجيع وحماية الاستثمار. وتم تشكيل اللجنة الاوزبكية - المصرية المشتركة برئاسة وزيري الاقتصاد في كلا البلدين والتي عقدت أول دورة لها في العاصمة طشقند عام 1996 ، وفي اطار تشجيع التبادل التجاري بين البلدين تم تنظيم معرض للمنتجات المصرية في طشقند شاركت فيه اكثر من ستين شركة مصرية , وفي عام 2009 تطور التعاون المشترك بين البلدين ليشمل اتفاقيات جديدة في مجالات الثقافة والصحة والأدوية والاتصالات والزراعة ( خاصة في مجال استنباط أنواع جديدة من القطن ) وقد لعب المركز الثقافي المصري في طشقند دوراّ بارزاّ في إعداد ومتابعة الكثير من الاتفاقيات التي وقعت بين البلدين وكذلك في نشر وتعليم اللغة العربية الذي يعد أحد الأدوار المضيئة في مسيرة التعاون المشترك بين البلدين.
ولايزال الأمل معقوداّ على ضرورة إعادة افتتاح المركز الثقافي المصري في العاصمة طشقند كضرورة لاستكمال دوره في دعم الواصل العلمي والثقافي بين البلدين .
نؤكد من جديد على أن الزيارة التاريخية للرئيس عبد الفتاح السيسي لجمهورية أوزبكستان في سبتمبر الماضي كان لها أبعد الأثر في بلورة المهام الكبرى التي يصبوا إلى تحقيقها القيادات السياسية بين البلدين ، فجملة الاتفاقيات الموقعة في تلك الزيارة عكست الطموح في رفع مستوى التبادل الاقتصادي بين البلدين ، وعليه فإن الأجهزة التنفيذية والوزارات المختلفة في الجانبين عليهم واجب عاجل يتمثل في صياغة برامج عمل تنفيذية لكل الاتفاقيات الموقعة ، وفي القلب منها التراث الثقافي المشترك ، والذي يمثل روح التعاون بين البلدين .
ملحوظة : كان كاتب هذه السطور قد التقى بالمشير عبد الفتاح السيسي ( بعد أن أعلن ترشحه للرئاسة ) في عام 2014 ضمن وفد " مبادرة مستقبل مصر" لطرح رؤية وطنية على قاعدة برنامج الثورة المصرية الفتية 25/ 30 وكان من ضمن المقترحات هي التعجيل بزيارة اوزبكستان لأهميتها الاستراتيجية الحاسمة للدور المصري في آسيا الوسطى.