كلمة الرئيس جمال عبد الناصر من دار الإذاعة بمناسبة ذكرى الجلاء عن سوريا ١٩٥٨

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر من دار الإذاعة بمناسبة ذكرى الجلاء عن سوريا ١٩٥٨

أيها المواطنون:

إن يوم الجلاء عن سوريا يمثل معنى كبيراً في تاريخ الدعوة المقدسة التي تتجاوب أصداؤها في منطقتنا اليوم؛ وهى دعوة الوحدة.. دعوة القوة.. دعوة الحياة.

لقد كان هذا اليوم ذروة شاهقة في تاريخ كفاح الشعب السوري، استطاع هذا الشعب العظيم من فوق علاها أن يستشرف على جوانب الأفق كلها، يرى ماضيه وراءه ويتطلع إلى مستقبله أمامه، يتزود من الماضي تجربة وفهماً ويختزن للمستقبل إرادة وأملاً.

أيها المواطنون:

لقد كان المعنى الكبير ليوم الجلاء عن سوريا هو أن شعبها وجد نفسه، واكتشف ملكاته ومواهبه، وقرر أن يكرسها جميعاً لتحقيق أمانيه في وحدة العرب العظمى. ولقد كان العهد الذى قطعته سوريا على نفسها وهى ترفع علم الاستقلال فى يوم الجلاء؛ هو أنه لن يرتفع فوق هذا العلم إلا علم واحد، هو علم الوحدة، والمعنى الرائع في هذا العهد هو أن الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا إذا كان الاستقلال مقدمة وتمهيداً لها، وأن الأمل الأعظم للعرب لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تخلصت إرادة العرب من أغلال الاستعمار وسلاسله؛ سواء فى ذلك سلاسل الحديد أو سلاسل الذهب.

أيها المواطنون:

كان هذا هو المعنى الكبير في يوم استقلال سوريا، لقد أدركت سوريا في هذا اليوم أن أماني الشعوب لا يمكن أن تكون منحة من دولة قوية، وأدركت سوريا في هذا اليوم أن الآمال الكبرى لا يمكن أن تكون معلقة بوعود تقطع نظير خدمات تؤدى؛ إنما أماني الشعوب تحققها إرادات الشعوب، وآمالها الكبرى لا تصنعها إلا عزيمتها القادرة. إن الحق يطلب لأنه حق، وإذا استحال الحق إلى منحة أو منة من قوى إلى ضعيف؛ لضاع شرف الحق وهانت كرامته.

أدرك شعب سوريا هذا كله يوم الاستقلال، فقطع على نفسه عهد السعي إلى الوحدة واثقاً مطمئناً.

أيها المواطنون:

هكذا انطلق شعب سوريا بعد الاستقلال إلى معركته الخالدة من أجل الوحدة، مزوداً بأعظم ما يمكن أن يتزود به محارب؛ وضوح في الهدف، إيمان بالقضية، ثقة بالنفس. وكان لابد للنصر أن يكون استجابة القدر، ولقد كان النصر الكامل لشعب سوريا ولشعب مصر الذى لاقاه في منتصف الطريق؛ هو قيام الجمهورية العربية المتحدة.

أيها المواطنون:

بهذا تأكد أن القضايا العربية لا يمكن أن تحل بعيداً عن العواصم العربية، وبهذا تأكد أن قيمة أي بلد في العالم لا تتحدد بمقدار مساحته من الأرض، ولا بتعداد السكان داخل حدوده، وإنما تتحدد قيمة أي بلد بمقدار إيمان أبنائه بحقهم، وبمدى استعدادهم للعمل المخلص المجرد لكفالة الاحترام لكل القيم التي يؤمنون بها. ولقد استطاع كفاحنا أن يثبت أنه ليست في العالم دول ضعيفة، وإنما في العالم دول مستضعفة، وكذلك استطاع كفاحنا أن يثبت أن الظلم لا يصنعه إلا الهوان، وأن الاستسلام هو الذى يجئ بالطغيان؛ هذا هو المنطق الإيجابي للحياة، وبغيره لا تكون هناك حياة.

أيها المواطنون:

ولقد فهمت شعوبنا - شعوب العرب كلها - هذا المنطق ووعته، فلقد كانت العبرة في تاريخنا ظاهرة ناطقة، ولإن كان هذا الفهم والوعى لم يجد طريقه إلى بعض الأفراد، فإن الشعوب بمشاعرها الخالصة وحواسها الشفافة وضمائرها المتحررة من رواسب الأهواء والأغراض، قد حفظت عبرة تاريخها، وتصرفت بصدق ونزاهة على أساسها؛ ومن ثم قربت منا يوم تحقيق الوحدة العظمى.

أيها المواطنون:

لتكن دعوتنا في هذا العيد أن ترتفع أعلام الاستقلال في كل بلد عربي. إن أعلام الاستقلال طليعة لأعلام الوحدة.

أيها المواطنون:

جعل الله من هذه الجمهورية العربية المتحدة التي جمعتنا تحت علمها الحر؛ عزاً وجاهاً لكل العرب، حصناً وموئلاً لكل العرب، عوناً وذخراً لكل العرب.

والسلام عليكم ورحمة الله.