اللغة السواحيلية: أصلها وتطورها عبر الزمن في شرق إفريقيا

اللغة هي نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة، وتعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. ودون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. كما ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. ومن خلال اللغة تحصل الفكرة فقط على وجودها الواقعي، كما في الحقيقة لكل لغة أصل ونشأه، وفي هذا البحث سنقوم بتسليط الضوء على لغة تعتبر من أهم لغات إفريقيا وهي اللغة االسواحيلية.
مما لا شك فيه أن اللغة السواحيلية لها تاريخ طويل بدأ منذ العصور القديمة، لكن بدأت أهم مراحلة بعد أن بدأ التجار العرب والفرس والهنود بالتوافد إليه في القرن السابع الميلادي وسنقسم تاريخ وتطور اللغة إلى أربع مراحل:
- المرحلة الأولى (قوم البانتو):
السكان الأصليون لإقليم الساحل الأفريقي هم من أَقْوام البانتو[1]، في عام 1,000 قبل الميلاد تقريبًا كان البانتو يُشكِّلون معظم سكان الإقليم السواحلي، وأخذوا بالاستقرار فيه والاستفادة من الموارد الغنيَّة المتوفرة لهم فيه، فعاشوا على الصيد ورعي الحيوانات والمواشي، ولاحقًا على زراعة الحبوب والمحاصيل بالاستفادة من تربة ضفاف الأنهار الخصبة، وتركَّزَ معظم السكان في هذه الفترة حول ساحل المحيط الهندي وعلى ضفاف الأنهار المُنتشرة ضمن هذا الإقليم. وصل قوم البانتو إلى الحدود الجنوبية للإقليم السواحلي، المُتمثّلة بمنطقة ليمبوبو، في سنة 500م -ومن هنا بدأت اللغة السواحيلية في النشأة- وهى لغة قوم البانتو حيث توجد الكثير من العناصر التي تثبت صحة أن أصل اللغة بدأت بأهل البانتو، فعلى المستوى المفرادات: فإن مستوى التشابه بين اللغة السواحيلية وأهل البانتو متشابهة جدًا، يمكن أن تحدث تغيرات طفيفة في اللواحق او النطق، لكن ليس للجذر فمثلًا:
- السواحيلية: Mtu, Maji
- الزيغولا[2]: Mntu, Manzi
》مستوى الجملة: فكلاهما لهما موضوع وصفة.
- السواحيلية: anakula ugali
- الزيغولا: adya ugali
》المستوى الصرفي: فكلاهما لديهما مفرد وجمع، لواحق وسوابق تبعًا للافراد والجمع فمثلًا:
- السواحيلية: مفرد: baba (a-na-lima)
جمع: baba (wa-na-lima)
- كيجيتا[3]: مفرد: Tata (ka-lima)
جمع: batata (a-ba-lima)
وإذا نظرنا جيدًا للمثالين المعروضين فسنجد: (اسم + سابقة تعتمد على الاسم + زمن + جذر) فكلتا التركبين متشابهين تمامًا.
》مستوى الفعل: فاللغة السواحيلية في الأصل تعتمد على اللاصقة البنتاوية a حيث تأثرت بقوم البانتو جدًا في هذه الجزئية، وتمثل ٩٠% من الأفعال السواحيلية تنتهي باللاحقة البنتاوية فمثلًا:
- السواحيلية: ku-kimbi(a)
- كيسوكوما[4]: ku-pik(a)
- المرحلة الثانية (الاحتكاك بالعرب):
بعد ما سكن قوم البانتو على ساحل شرق إفريقيا، بدأوا في عملية التجارة مع العرب والعالم الخارجي، حيث بدأ التجَّار العرب بالتوافد إلى أفريقيا مع الفتح الإسلامي لمصر وبلاد المغرب في القرن السابع الميلادي، إذ قاموا بتوسيع خُطوطهم التجارية تدريجيًا نحو الجنوب خلال القرن الثامن للميلاد، بحيث اتصلوا ببعض مدن الساحل الإفريقي. ولم يُعاني الوافدون العرب الأوائل من صعوبات تذكر في الاستقرار بمدن شرق إفريقيا، إذ لم تكُن توجد هناك أي أحلاف قبلية مُتماسكة أو دول قويّة تسيطر على تلك المدن، وبالتالي استطاع التجَّار العرب تأسيس شبكات تجارية واكتسبوا نُفوذًا سياسيًا بمُرور الَقت. مع نهاية القرن الثامن قبل الميلاد اتَّصلت تجارة شرق إفريقيا مع التجارة العربية في المحيط الهندي بأكمله، فضَّل التُجَّار العرب- بعد الإسلام- الارتحال إلى سواحل شرق إفريقيا (في تنزانيا وكينيا حاليًا) عوضًا عن غيرها من أجزاء إفريقيا أو آسيا، وذلك لأنَّ مناخها كان أكثر رطوبة ولأنَّ إرساء السفن فيها كان أسهل بفضل كثرة الجزر المقابلة لسواحلها، وقد كان من المُتعارف عليه - بين العرب – تسمية هذه البلاد باصطلاح "أرض الزّنوج"، ونتيجة لهذا التداخل التجاري الذي عقبه سيطره الدولة الإسلامية خاصة عمان على شرق إفريقيا؛ تأثرت اللغة السواحيلية باللغة العربية تأثرًا واضحًا، حيث شكلت الكلمات العربية في اللغة أكثر من ٤٥% فمثلًا:
- السواحيلية: samaki, wakati, kujadili
- العربية: سمك، وقت، يجادل
نلاحظ هنا: أن الكلمات السواحيلية متأثرة بالعربية لكن بما يوافق الطبيعة السواحيلية وهى انتهاء الكلمات بمتحرك "لأن التعبير الصوتي السواحيلي معتمد على الحروف المتحركة" فلابد من أن نتدرج الكلمات العربية تحت التعبير الصوتي لهم.
- المرحلة الثالثة (الغزو البرتغالي):
وصلت بعثة "فاسكو دي غاما" الاستكشافية إلى سواحل شرق إفريقيا في عام 1498، وجاءت معه (ومن بعده) أساطيل برتغاليَّة مسلحة جيدًا لم تكن دفاعات المدن السواحيلية قادرة على الصّمود أمامها. في سنة 1502 أُجبِر سلطان "كيلوا" على الاتفاق مع البرتغاليين على أداء جزية لهم لقاء عدم مُهاجمة مدينته، وهو ما حصل كذلك مع سلطان زنجبار، لكن الأسطول البرتغالي لم يلبِث -رغم هذا- أن استأنف هجومه على المدن السواحلية، فسقطت "كيلوا" و"مومباسا" وسائرُ المدن، ونُهب قسم كبير منها ودُمّر، وفي عام 1506 كانت قد استتبّت السيطرةُ للبرتغاليِّين على سواحل شرق أفريقيا بأكملها بما فيها الإقليم السواحلي بأسره. خلال معظم تاريخهم لم يحكم البرتغاليُّون الإقليم السواحلي بصورة مباشرة، بل كانوا يتركون السلطة الاسمية على المدن السواحيلية لحُكَّامها المسلمين، ولكن هؤلاء السلاطين المسلمين كانوا تابعين -عمليًا- للنّفوذ البرتغالي، ومجبرين على أداء الجزية والضرائب لملك البرتغال.
وبهذا الغزو تأثرت اللغة باللغة البرتغالية، وزادت من مفرداتها الدخيلة "على البنتاوي" ومن مظاهر تأثر اللغة:
- السواحيلية: Meza
- البرتغالية: a mesa/leso
- المرحلة الرابعة (التاريخ الحديث):
شهدت نهاية القرن التاسع عشر مرحلة من التَّدَافُع الاستعماري على إفريقيا، وكان لابد من الحصول على موافقة من الدول الأوربية الكبرى، وبعد توقيع عدد من الاتفاقيات من ألمانيا والبرتغال وغيره من الدول، بدأت الحماية البريطانية الرسمية في زنجبار عام 1890.
بقيت المدن السواحيلية الواقعة على شواطئ القارة الإفريقية واقعة تحت الاستعمار إما البريطاني أو الألماني. فالمدن السواحيلية في كينيا -ومنها مومباسا- وقعت تحت الحماية البريطانية منذ عام 1895، ومن ثم أصبحت تابعة لمُستعمرة كينيا البريطانية سنة 1920، وأخيرًا حظيت باستقلالها وحالتها الحديثة في سنة 1963. وأما باقي الإقليم السواحلي (بما فيه مدينتا "كيلوا" و"دار السلام") فقد أصبح تابعًا لمُستعمرة تنجانيقا الألمانية مُنذ سنة 1891، وبعد الحرب العالمية الثانية خسرت ألمانيا سُلْطتها عليها فأصبحت ملكًا لبريطانيا، وأخيرًا حظيت باستقلالها عام 1961 فتحوَّلت إلى دولة تنزانيا الحديثة، ونتيجة لهذا الاستعمار تأثرت اللغة ووصلت لذروتها من التطور متأثرة باللغات الأوربية وتشكلت من الكثير والكثير حيث:
- السواحيلية: shule
الالمانية: schule
- السواحيلية: radio, televesheni
الانجليزية: radio, television
كما تأثرت أيضًا باللغة الهندية والفارسية.
وبهذا وصلنا لأخر رحلتنا في اللغة السواحيلية، لغة تعكس تاريخ بلاد وحضارتها... فاللغة مرآة للمجتمع ليس فقط الأدب وحده، وكما رأينا اللغة مثل الطفل تنمو وتطور وتتجدد، يبقى ما يبقى منها ويندثر ما يندثر.. وإن ما وصلت إليه اللغة السواحيلية يعتبر نقطة مهمة في تاريخ اللغات الإفريقية.. الغة السواحيلية... لغة عالمية.
مصادر:
- https://www.scribd.com/document/343850286/Chimbuko-La-Kiswahili
- https://www.scribd.com/document/737556379/Historia-Ya-Lugha-Ya-Kiswahili
[1] هيَ تسميةٌ عامَّة للعديد من المجموعات العرقيَّة من الزَّنُوج الذين يسكنونَ أجزاءً ضخمة من قارة أفريقيا، ويُشكّلون الآن نسبة كبيرة جداً من سُكَّان القارة، فهُم يُمثّلون ما يتراوحُ بيْن 300 إلى 600 عرقٍ مُختلف، ويبلغ تعدادُهم عشرات ملايين الأشخاص.ففي الأصل، كان البانتو يسكُنون في إقليمٍ بغرب أفريقيا، ما بيْن دولتي نيجيريا والكاميرون الحاليَّتيْن، لكنَّهم بدؤوا بالهجرة إلى أطراف القارَّة قبلَ 3,000 سنة، فاستوطنوا في أماكن عديدة بوسطها وجنوبها وعلى ساحلها الشرقيّ أثناء حركة هجرةٍ عظيمةٍ تُعرَف باسم «انتشار البانتو».
[2] إحدى لغات قوم البانتو
[3] إحدى لغات قوم البانتو
[4] إحدى لغات قوم البانتو