السنغال بين الماضي المضطرب والمستقبل المزدهر: دراسة في التحول السياسي والاجتماعي
إعداد الباحث : محمود سامح همام - باحث سياسي متخصص في الشئون الإفريقية
تُعد السنغال من الدول الإفريقية التي شهدت تحولات سياسية واجتماعية عميقة، ما جعلها نموذجًا متميزًا في الاستقرار السياسي والديمقراطية في منطقة غرب إفريقيا. فمنذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، مرت البلاد بمراحل مختلفة، جمعت بين الاضطرابات السياسية والتقدم التدريجي نحو ترسيخ الديمقراطية. وفي حين تعرضت العديد من الدول الإفريقية لانقلابات عسكرية وصراعات أهلية، تمكنت السنغال، رغم التحديات السياسية والاقتصادية، من تجنب الوقوع في الفوضى، ما عزز مكانتها كواحة للاستقرار النسبي في القارة. واليوم، تقف السنغال على أعتاب مستقبل واعد، حيث تعتبر إحدى النماذج الديمقراطية الناجحة في إفريقيا، وذلك بفضل الدور المحوري الذي تلعبه مؤسسات الدولة، بما في ذلك الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في دعم الاستقرار السياسي والتقدم الاجتماعي. وتُعد الانتخابات الديمقراطية المتتابعة والانتقالات السلمية للسلطة أبرز دلائل هذا النجاح. (1)
وسنحاول في هذة المقالة تسليط الضوء على الداخل السنغالي مابين الماضي المضطرب والواقع والمستقبل المزدهر، بالإضافة إلى تناول مظاهر التحول السياسي والاجتماعي والجيوسياسي لدكار من خلال المحاور التالية :
أولًا : مقدمة تاريخية: الاستعمارالفرنسي والاستقلال السنغالي
ثانيًا : الانتقال السلمي للسلطة والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في غرار التحول السياسي في السنغال
ثالثًا : موقف الدول الكبرى في ضوء الديناميات المتسارعة في المشهد السياسي في دكار
رابعًا : السنغال في النظامين الإقليمي والدولي: رؤية وتحليل
أولًا : مقدمة تاريخية: الاستعمارالفرنسي والاستقلال السنغالي
كانت السنغال أول دولة مستعمرة خلال القرن الخامس عشر من قبل القوى الأوروبية الكبرى؛ الفرنسية والهولندية والبرتغالية والبريطانية. كما أنها موقع جزيرة جوري ، وهي واحدة من أولى مواقع النقل للممر الأوسط للعبودية إلى الأمريكتين. كما تم وضعها في بؤرة الاستعمار الفرنسي منذ مؤتمر برلين . وقد مثلت تلك الحلقة ذروة المنافسة الأوروبية البيضاء على الأراضي الأفريقية، وهي العملية المعروفة باسم التدافع على أفريقيا.
لعب الاستعمار الفرنسي دورًا حاسمًا في تشكيل المسار السياسي والاجتماعي للسنغال، حيث كانت البلاد إحدى أبرز المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا منذ منتصف القرن التاسع عشر. بدأ النفوذ الفرنسي يتوسع في السنغال تدريجيًا منذ عام 1659 مع تأسيس سانت لويس كأول مستعمرة فرنسية على الساحل الغربي لإفريقيا. بحلول القرن التاسع عشر، أصبحت السنغال قاعدة مركزية للاستعمار الفرنسي في المنطقة، حيث استخدمت فرنسا السنغال كنقطة انطلاق لعملياتها الاستعمارية في غرب إفريقيا.
استكمالًا، وفي إطار السياسة الاستعمارية الفرنسية، تم فرض نظام اقتصادي واجتماعي جديد يخدم مصالح الاستعمار، حيث تم تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد زراعي يخدم السوق الفرنسية، مع التركيز على زراعة الفول السوداني كمحصول رئيسي للتصدير. كما أنشأت الإدارة الاستعمارية بنية تحتية تخدم مصالحها الاقتصادية دون اعتبار للاحتياجات التنموية للشعب السنغالي. في هذا السياق، تم تطبيق نظام قانوني فرنسي على المستعمرات، مما أدى إلى تغيير كبير في النظام القضائي التقليدي في السنغال.
أما سياسيًا، كانت فرنسا تسعى لتطبيق نموذج "الاستيعاب"، حيث حاولت دمج النخب السنغالية في النظام السياسي الفرنسي. في عام 1848، منح الفرنسيون سكان جزيرة غوريه، وسانت لويس، وروفسك، وداكار حق التمثيل السياسي من خلال انتخاب نواب يمثلونهم في البرلمان الفرنسي، وكان السنغالي بلير جاين أحد أول الأفارقة الذين تم انتخابهم لهذا المنصب في عام 1914. ومع ذلك، كان هذا الحق محدودًا للغاية واقتصر على المدن الأربع فقط، في حين بقيت بقية المناطق الريفية خارج دائرة التأثير السياسي، بالرغم من هذه المحاولات الفرنسية لدمج السنغاليين في النظام السياسي، برزت مقاومات وطنية متنامية ضد السياسات الاستعمارية. بحلول منتصف القرن العشرين، بدأت حركة التحرر الوطني تتصاعد، بقيادة نخبة من المثقفين والنشطاء السياسيين الذين طالبوا بالاستقلال التام. كان من أبرز هؤلاء القادة ليوبولد سيدار سنغور، الذي أصبح لاحقًا أول رئيس للسنغال بعد الاستقلال. قاد سنغور الحركة الوطنية بذكاء سياسي، مستخدمًا خطابًا دبلوماسيًا يعتمد على التفاوض بدلاً من الصدام المباشر مع الفرنسيين.
وفي عام 1958، صوتت السنغال لصالح الانضمام إلى "المجتمع الفرنسي" بقيادة شارل ديغول، وهو ما منحها درجة من الحكم الذاتي. ومع ذلك، استمرت الضغوط الداخلية من أجل الاستقلال الكامل. في 4 أبريل 1960، أعلنت السنغال استقلالها رسميًا عن فرنسا، بعد مفاوضات قادها ليوبولد سيدار سنغور ومامادو ديا. وفي نفس العام، تم انتخاب سنغور كأول رئيس للجمهورية السنغالية، فيما تم تعيين مامادو ديا رئيسًا للوزراء. كان الاستقلال السنغالي بمثابة نقطة تحول مهمة في تاريخ غرب إفريقيا، حيث كان من أوائل حالات الاستقلال السلمي عن الاستعمار الأوروبي.
وعطفًا على سُبق ذكره، خلال السنوات التالية للاستقلال، عملت الحكومة السنغالية على إعادة تشكيل الدولة، مع الحفاظ على علاقات قوية مع فرنسا في إطار التعاون الاقتصادي والدبلوماسي. ظلت السنغال عضوًا في "الفرنكوفونية"، واستمرت في استخدام الفرنك الأفريقي كعملة وطنية، مما يعكس تأثير الاستعمار الفرنسي المستمر على النظام المالي السنغالي، ومن الناحية السياسية، نجحت السنغال في تجنب الاضطرابات التي شهدتها العديد من الدول الإفريقية بعد الاستقلال، وذلك بفضل القيادة الحكيمة لسنغور الذي حافظ على استقرار البلاد من خلال تأسيس نظام سياسي يقوم على الحزب الواحد لفترة طويلة، قبل أن يبدأ في تبني إصلاحات تدريجية نحو التعددية السياسية في السبعينيات.
في الختام، الاستعمار الفرنسي، رغم انتهاءه رسميًا في 1960، ترك بصمة عميقة على النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السنغال، وهي آثار لا تزال ملموسة حتى اليوم، سواء في إطار العلاقات الثنائية بين السنغال وفرنسا أو في الهيكل الاقتصادي للبلاد الذي لا يزال يعتمد بشكل كبير على الزراعة والتجارة مع أوروبا. (2)
ثانيًا : الانتقال السلمي للسلطة والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في غرار التحول السياسي في السنغال
§ خلفية تفاقم الأزمة السياسية في دكار
إذا كانت هناك عناصر جديدة في الأزمة السنغالية، فمن المهم أن نلاحظ أنها جزء كامل من التاريخ السياسي للبلاد. بمعنى آخر، إن أعمال العنف التي تشهدها البلاد لها سوابق، وكذلك الأمر بالنسبة للممارسات المناهضة للديمقراطية المتهم بها الرئيس ماكي سال.
وفيما يتعلق بالسياق وأعمال العنف، يجب علينا أولا أن نتفق على أن الأزمات السياسية في السنغال عديدة ومنتظمة. وهي تختلف على الأكثر في الأهمية الرمزية وفي الجدية من حيث عواقبها. وإذا كانت الفترة الأخيرة قد شهدت فقدان حوالي ستين شخصاً لحياتهم، فهذا ليس بالأمر غير المعتاد، خاصة خلال فترة الانتخابات. المثال الأكثر دلالة هو الانتخابات الأولى لسنغور في عام 1963 والتي أدت إلى أعمال شغب أدت إلى مقتل حوالي أربعين شخصًا وإصابة ما يقرب من 250 آخرين في شهر ديسمبر وحده. الأزمة السنغالية في مايو 1968 عرقلت البلاد لسنوات. وفي عام 1988، غرقت داكار في حالة من الفوضى، حيث أدت أعمال العنف في المناطق الحضرية إلى التشكيك في نتائج الانتخابات، وظهرت لفترة وجيزة جماعة "مقاومة" مسلحة. وأدت أزمة 1993 إلى الاغتيال السياسي لنائب رئيس المجلس الدستوري. وأخيرا، لا تزال أزمة 2010-2011 بشأن الإصلاح الدستوري ثم محاولة إعادة انتخاب الرئيس عبد الله واد في الذاكرة. هناك العديد من أوجه التشابه بين هذه الأزمات. إنها تعبير عن تزايد الضغوط السياسية، التي يتم التحريض عليها أحيانًا من خلال الممارسات التعسفية لمن هم في السلطة. هذه الممارسات، التي استخدمها أيضًا الرئيس ماكي سال، ليست غير عادية ولها جذورها في تصرفات أسلافه.
وكأفضل مثال على ذلك، فإن استغلال السلطة القضائية في ظل رئاسة ماكي سال، وتحريض النظام القضائي على ملاحقة الخصم من أجل استبعاده ثم العفو عنه، يجد أصوله في عهد سنغور (الرئيس من 1960 إلى 1980) وخاصة في عهد سنغور (الرئيس من 1960 إلى 1980) برئاسة عبده ضيوف (رئيس من 1980 إلى 2000). وللتذكير، كان الخصم السياسي الرئيسي لعبدو ضيوف هو عبد الله واد (الرئيس من 2000 إلى 2012). تم اعتقال عبد الله واد وإطلاق سراحه عدة مرات. وكانت أبرز الاعتقالات تلك التي جرت في عامي 1988 و1993. وفي المرة الأولى التي أدارها الرئيس ضيوف، تم إسقاط التهم في المرة الثانية.
كما فعل ماكي سال كما فعل أسلافه من خلال إنشاء وتفكيك العديد من المؤسسات، على خلفية المصلحة الانتخابية. وبذلك، تمكن من إلغاء منصب رئيس الوزراء في عام 2019، رغم أن ذلك لم يكن جزءاً من وعوده الانتخابية، قبل أن يعيدها في عام 2022. وتمكن عبده ضيوف من فعل الشيء نفسه بين عامي 1983 و1991.
كذلك، إذا كان الرئيس ماكي سال قد ألمح إلى فكرة الترشح لولاية ثالثة على التوالي، رغم نص الدستور، فإن عبد الله واد في 2012 ذهب أبعد منه، بترشحه فعليا.
إن تأجيل الانتخابات الرئاسية من قبل الرئيس الحالي هو بدوره صفحة أخرى في كتاب الأساليب التي استخدمها أسلافه. يقال أحيانًا أن محاولة تأجيل الانتخابات إلى عام 2024 هي الأولى منذ انتخابات عام 1963، ومع ذلك، يجب التأكيد على أن هذه الانتخابات كانت أول انتخابات في البلاد بالاقتراع العام منذ استقلالها. تعتمد البلاد على تأجيل الانتخابات التي بدأها سنغور. علاوة على ذلك، ورغم أن عبده ضيوف وعبد الله واد لم يؤجلا قط الانتخابات الرئاسية، فقد قام كل منهما بتأجيل الانتخابات من أجل منع نفسيهما من التعرض لهزيمة انتخابية محرجة. وكانت هذه هي حال عبده ضيوف في الانتخابات البلدية في عام 1995، وعبد الله واد في الانتخابات التشريعية في عام 2006. وعلى نطاق أوسع، يشكل تعطيل الانتخابات في السنغال مناورة منتظمة من جانب السلطة التنفيذية لزعزعة استقرار المعارضة. (3)
وليس المقصود هنا وضع هذه الممارسات في منظورها الصحيح، بل التركيز على أهمية التمييز بين ما هو جديد في الممارسات السياسية السنغالية وما يشكل جزءاً من تاريخ البلاد الطويل. لقد شهدت السنغال دائما أزمات سياسية متكررة. وينطبق الشيء نفسه على الاحتجاجات السياسية ووفياتها. إن إضفاء الطابع الشخصي على السلطة موجود في الحمض النووي للرئيس السنغالي. إن التطورات الجديدة موجودة في مكان آخر، ولا بد من التعرف عليها، لأنها هي أسباب الأزمة التي تعرض للخطر بنية سياسية عمرها ستين عاما وحققت نجاحا لا يمكن إنكاره.
§ الصراعات السياسية والانتقال السلمي للسلطة
تعد السنغال واحدة من الدول الإفريقية التي استطاعت أن تحقق انتقالًا سلميًا للسلطة في معظم مراحل تاريخها السياسي. الانتخابات الرئاسية لعام 2024 كانت بمثابة امتحان جديد للديمقراطية السنغالية، حيث جرت في جو من المنافسة الشديدة بين الفصائل السياسية المختلفة، ولكنها انتهت بفوز “فاي” في عملية اعتُبرت شفافة ونزيهة إلى حد كبير. ومع اعتراف الرئيس السابق بالنتيجة وتسليم السلطة بطريقة سلمية، تأكدت مكانة السنغال كنموذج للاستقرار السياسي والديمقراطية في إفريقيا، هذه السمة الفريدة في النظام السياسي السنغالي تتجلى بوضوح في كل انتقال رئاسي، حيث يتم احترام النتائج الانتخابية والامتناع عن الانقلابات أو العنف السياسي، وهو ما يعزز ثقة الشعب في مؤسساته السياسية. (4)
§ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بعد تولي باسيرو ديوماي فاي الحكم
بعد توليه الحكم، تبنى فاي أجندة إصلاحية شاملة تهدف إلى مواصلة جهود سلفه في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وركزت هذه الإصلاحات على تعزيز خطة السنغال الناشئة التي أطلقها ماكي سال، مع بعض التعديلات والتوسعات. كانت أهم الأولويات هي تحسين البنية التحتية، وخاصة في المناطق الريفية، ودعم القطاعات الحيوية مثل الزراعة والطاقة المتجددة.
الإصلاحات الاقتصادية التي تبناها فاي جاءت في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تنويع مصادر دخلها الاقتصادي، خاصة بعد التحديات التي فرضتها جائحة كورونا وتأثيرها على الاقتصاد العالمي. إحدى ركائز هذه الإصلاحات كانت تشجيع الاستثمار الأجنبي وتخفيف الأعباء البيروقراطية عن الشركات الصغيرة والمتوسطة، مما أدى إلى نمو تدريجي في القطاع الخاص. (5)
على الصعيد الاجتماعي، ركزت سياسات فاي على تقليص الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية من خلال تعزيز برامج التعليم والرعاية الصحية وتوفير الخدمات الأساسية في المناطق المهمشة. هذه الجهود استهدفت الحد من الفقر وتحقيق التنمية المتوازنة، خاصة مع تصاعد الضغوط الاجتماعية نتيجة لارتفاع معدلات البطالة بين الشباب.
التحول السياسي في عهد “فاي” لم يكن مقتصرًا على النواحي الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل شمل أيضًا مجالات مثل الحوكمة الرشيدة وتعزيز الشفافية في العمل الحكومي. فقد تم تبني سياسات جديدة تهدف إلى مكافحة الفساد وتعزيز المساءلة في الإدارة العامة، وهو ما لاقى ترحيبًا كبيرًا من قبل المنظمات الدولية التي تراقب أداء السنغال في هذا المجال. (6)
كما حرص فاي على بناء علاقات إقليمية ودولية قوية، مستفيدًا من مكانة السنغال كدولة مستقرة نسبيًا في منطقة تشهد اضطرابات متزايدة. وسعت حكومته إلى لعب دور أكبر في حل النزاعات الإقليمية والمشاركة في الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب والتطرف.
ثالثًا : موقف الدول الكبرى في ضوء الديناميات المتسارعة في المشهد السياسي في دكار
تجد فرنسا والدول الغربية نفسها على نطاق أوسع في مأزق فيما يتعلق بالموقف الذي يتعين عليها أن تتبناه في مواجهة الأزمات السياسية في غرب أفريقيا. فرنسا عالقة بسبب عودة روسيا إلى أفريقيا، الأمر الذي يولد أجواء الحرب الباردة، وهي الآن بلا رد. وقد تتهم فرنسا بشكل خاص بالاستعمار الجديد من قبل الدعاية الروسية، وربما يكون هذا أول رد فعل لفك الارتباط من أجل إثبات أن الأمر ليس كذلك. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمكن الدفاع عنه لسببين. الأول هو أن فك الارتباط هذا يرتكز على رهان محفوف بالمخاطر بأن المشاعر المعادية لفرنسا سوف تمر. فضلاً عن ذلك، فرغم أن فرنسا والغرب يتخذان موقفاً سلبياً، فإن المعسكر المعارض ليس كذلك.
وفشل قضية النيجر هو خير مثال. وبينما تدهور الوضع مع تحول الانقلاب إلى انقلاب، ظلت فرنسا، التي أصيبت بالشلل بسبب الخوف من التعرض للانتقاد، سلبية على الرغم من مطالبات المعسكر الرئاسي بالتدخل (وهو مصطلح لا يمكن اختزاله إلى العسكري). وفي نهاية المطاف، ظل المجتمع الدولي متفرجاً على إطاحة المؤسسة العسكرية برئيس منتخب ديمقراطياً، على الرغم من نداءاته طلباً للمساعدة. أما المجلس العسكري، المنعزل بحكم الأمر الواقع عن الغرب، فلم يكن أمامه خيار سوى اللجوء إلى روسيا للحصول على الدعم الخارجي.
وفضلًا عن ذلك، فإن الصراع السنغالي لا يتأثر حقًا بالسياق الإقليمي. إنها أزمة ناشئة عن عناصر التوتر في الكل الكلاسيكي في البلاد، في حين لم يتم التذرع بالمصادر التقليدية للتهدئة بحكمة. ومع ذلك، يمكن لهذه الصراعات الوطنية أن تمتد إلى الساحة الدولية. والنيجر تثبت مرة أخرى ذلك. ويشكل الصراع بين الرئيس بازوم والجنرال تشياني جزءا من قائمة طويلة من معارك النفوذ بين النقابيين والجيش في النيجر. باختصار، يمكن ربط الأحداث السنغالية بالوضع الإقليمي.
وفي هذا الوضع المحفوف بالمخاطر وفي وقت حيث تخضع الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا للتدقيق في القارة وخارجها، فمن غير المعقول أن نتدخل ولو قليلاً في الصراع السياسي السنغالي. هذا حقبة ماضية. ويبدو أن فرنسا تتبع هذا التخصص. ومع ذلك، فإن الصمت ليس الرد المثالي. ستحتاج فرنسا أخيرًا إلى أن تكون قادرة على الانخراط في معركة التضليل التي تفوز بها روسيا في غرب إفريقيا حتى تتمكن على الأقل من شرح تصرفاتها وأهدافها بوضوح. ولتحقيق هذه الغاية، سيكون من الضروري أن يكون لديها اتصالات عامة فعّالة فيما يتصل بسياستها الخارجية، وهو الأمر الذي ظلت مفقودة لفترة طويلة.
ختامًا، مع استمرار التحولات السياسية في دكار، ستظل الدول الكبرى تسعى إلى الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع السنغال، مع مراقبة التطورات عن كثب لضمان مصالحها الاستراتيجية. ويبقى مستقبل هذه العلاقات مرهونًا بمدى قدرة السنغال على الحفاظ على استقرارها السياسي ومتابعة مسار الإصلاحات الديمقراطية، الذي يشكل أساس جذب الشركاء الدوليين. (7)
رابعًا : السنغال في النظامين الإقليمي والدولي: رؤية وتحليل
تعتبر السنغال دولة ذات موقع جغرافي واستراتيجي مهم في غرب إفريقيا، مما جعلها تلعب دورًا محوريًا في النظامين الإقليمي والدولي. وباعتبارها عضوًا في العديد من المنظمات الإقليمية والدولية، مثل الاتحاد الإفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، استطاعت السنغال أن تبني شبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية والتجارية التي ساعدتها على تعزيز مكانتها على الساحة العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع السنغال بتاريخ من الاستقرار السياسي النسبي، مما أهلها للعب دور الوسيط في حل النزاعات الإقليمية. في هذا المحور، سنستعرض رؤية وتحليل لدور السنغال في النظامين الإقليمي والدولي، مع التركيز على سياساتها الخارجية، وعلاقاتها مع القوى الدولية، ومساهماتها في تعزيز التعاون الإقليمي، ودورها في مواجهة التحديات العالمية مثل الإرهاب والتغير المناخي، وفي سياق متصل يمكننا تسليط الضوء على أبرز مواقف السنغال من القضايا الإقليمية والدولية كالآتي :
§ القضايا الإقليمية
انشغل الرئيس السنغالي الجديد باسيرو ديوماي فايي دبلوماسياً في غرب أفريقيا بجولتين من الزيارات إلى بلدان المنطقة، كانت زيارات فاي الأولية إلى موريتانيا وغامبيا وغينيا بيساو وغينيا والرأس الأخضر تهدف إلى تعزيز التعاون مع جيرانه. أما زياراته إلى كوت ديفوار ونيجيريا وغانا ومالي وبوركينا فاسو فكانت تهدف على ما يبدو إلى تعزيز المصالحة بين الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وأعضائها الثلاثة الذين شكلوا تحالف دول الساحل (AES). (8)
وتقوم دبلوماسية دكارعلى الدعوة إلى إيديولوجية سيادية؛ وفي سياق ما ذُكر نظراً لمكانتها الإيجابية لدى زعماء دول غرب أفريقيا، فإن السلطات السنغالية الجديدة في وضع جيد يسمح لها بمساعدة جهود الوساطة الجارية الرامية إلى ضمان بقاء مالي وبوركينا فاسو والنيجر في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا. وعلى النقيض من زعماء آخرين في المنطقة، لا تربط السلطات السنغالية الجديدة علاقات متوترة مع دول غرب أفريقيا. كما يتقاسم زعماء السنغال وجهات نظر دول غرب أفريقيا بشأن احترام سيادة دول غرب أفريقيا. كما أن جودة الانتخابات التي أوصلت رئيس السنغال إلى منصبه لا جدال فيها تضفي مصداقية أيضاً، ويبدو أن زيارات الرئيس السنغالي إلى باماكو وواغادوغو في الثلاثين من مايو الماضي، أرست الأساس لوساطته مع بلدان مجموعة دول شرق إفريقيا. فقد أوضح موقفه بشأن تعزيز قوة الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وناقش التحديات مع مضيفيه. (9)
§ القضايا الدولية
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا بدا أن السنغال تتخذ موقفًا محايدًا بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، بعد أن اختارت الامتناع عن التصويت في تصويتين متتاليين في الأمم المتحدة بعد الغزو الروسي. كان الأول قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 2 مارس 2022 والذي يطالب موسكو بسحب قواتها العسكرية من الأراضي الأوكرانية على الفور. امتنعت السنغال عن التصويت على القرار، وحرص الرئيس السنغالي ماكي سال على تذكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بهذا القرار خلال زيارته الأخيرة لروسيا، وفي التاسع من مارس 2022، أجرى ماكي سال، بصفته رئيس الاتحاد الأفريقي، محادثة هاتفية مع الزعيم الروسي. ودعا سال إلى وقف إطلاق نار دائم، وأشاد أيضًا باستعداد بوتين للاستماع والحفاظ على خطوط الاتصال مفتوحة نحو حل تفاوضي للصراع، استكمالًا هذا الموقف المحايد لعدة أسباب أهمها
إن القارة الأفريقية هي واحدة من أكبر مستهلكي الحبوب في العالم والتي تأتي من روسيا وأوكرانيا. وفي هذا الصدد، ذكر السفير الروسي في داكار أن روسيا تزود السنغال بنحو 40% من احتياجاتها من القمح. ومن المحتم أن ترتفع أسعار المواد الغذائية في البيئة الحالية، وخاصة بالنسبة للمنتجات القائمة على القمح. ويشير خبراء من البنك الدولي إلى أن " الأسعار المحلية للأرز والقمح والزيت والسكر وغيرها من الواردات المصنعة ارتفعت بالفعل بنسبة تتراوح بين 20 إلى 50% في بلدان مختلفة من [غرب أفريقيا] ". وقد تضرر السكان الأفارقة بشكل خاص من ارتفاع الأسعار، خاصة وأن القارة ليس لديها الكثير من الحرية للحد من التأثير. (10)
وعلاوة على ما ذُكر، يمكننا تسليط الضوء على الموقف السنغالي من جرائم الاحتلال الصهيوني في حق الفلسطنيين، حث رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو، خلال مشاركته في مظاهرة جديدة مؤيدة للفلسطينيين في العاصمة السنغالية دكار، الدول الإسلامية على مقاطعة النظام الإسرائيلي وتكثيف الضغوط لعزل الدولة الصهيونية، وهذه هي المرة الأولى منذ 7 أكتوبر 2023، الذي يمثل استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة، يحضر مسؤول سنغالي كبير مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في العاصمة السنغالية داكار، وفي كلمته التي ألقاها في التجمع، وصف رئيس الوزراء السنغالي نظيره الإسرائيلي بأنه شخص يفضل سحق آلاف الجثث تحت قدميه لتجنب مواجهة العدالة.
ودعا سونكو إلى مزيد من التضامن بين الدول الإسلامية لدعم فلسطين، وقال: "يجب أن نجمع كل الذين يستنكرون هذا الظلم، للعمل نحو حل سياسي يكون حلا لعزل دولة إسرائيل".
وأضاف رئيس الحكومة أن "الأمر يتعلق بوقف هذه الوحشية الإنسانية التي أقرتها ودعمتها بعض الدول الغربية"، وتابع أن "الإدانة فقط لا تكفي؛ فالسنغال مستعدة لاتخاذ إجراءات أكثر ملموسة، فضلًا عن ذلك دعا رئيس الوزراء السنغالي شعبه والعالم إلى الانضمام إلى الحملة، وقال: "يجب اتخاذ عقوبات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية ضد إسرائيل. إن دعوات ضبط النفس لم تعد كافية، بل يتعين علينا بذل المزيد من الجهود لدعم إخواننا الفلسطينيين" (11)
يمكننا القول أن السنغال تُعد من الدول القليلة في القارة الإفريقية التي تمتلك سجلًا طويلًا من الديمقراطية والاستقرار السياسي. فمنذ استقلالها، تمكنت من إجراء عدة انتقالات سلمية للسلطة، وهو ما جعلها نموذجًا في المنطقة. هذه التجربة الديمقراطية الفريدة من نوعها جعلت السنغال لاعبًا رئيسيًا في دعم الاستقرار الإقليمي، حيث تعمل باستمرار على التوسط في النزاعات وتسوية الخلافات داخل دول غرب إفريقيا، وتلعب دورًا فاعلًا في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وعلى الرغم من دعمها لمبادئ عالمية مثل الاستقرار والسلام، فإن بعض قراراتها الدولية تُبنى بشكل مباشر على مصالحها الداخلية، مما يوضح استقلاليتها في صنع القرار وسعيها الدائم لتحقيق مصالحها الوطنية جنبًا إلى جنب مع مسؤولياتها الدولية.
ختامًا، تبرز السنغال كقصة نجاح في قارة شهدت العديد من الاضطرابات السياسية والاجتماعية. فعلى الرغم من تحديات الماضي، بما في ذلك الصراعات السياسية والأزمات الأمنية، استطاعت البلاد أن تحافظ على مسار ديمقراطي ثابت، مستندة إلى تقاليد سياسية راسخة ورؤية واضحة نحو المستقبل. التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها السنغال، خاصة في العقود الأخيرة، تعكس إرادة قوية للتغيير والتقدم. وبينما تستمر في مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية، فإن التزامها بالإصلاحات والديمقراطية يعزز آفاقها نحو مستقبل مزدهر ومستقر. إن النجاح في تحقيق التنمية الشاملة سيعتمد على قدرة القيادة السنغالية على مواصلة هذه المسيرة التقدمية والاستفادة من الفرص المتاحة على الساحة الإقليمية والدولية.
قائمة المرجع
1. https://nai.diva-portal.org/smash/get/diva2:279373/FULLTEXT01.pdf
2. https://www.larousse.fr/encyclopedie/divers/S%C3%A9n%C3%A9gal_histoire/187413
3. https://www.jean-jaures.org/publication/crise-politique-au-senegal-sans-dialogue-ledifice-democratique-tremble/
4. https://www.bbc.com/afrique/articles/cy6eleg0x0no
5. https://www.giga-hamburg.de/en/press/change-of-power-in-senegal-bassirou-diomaye-faye
6. https://www.africanews.com/2024/07/10/a-look-into-senegals-president-diomaye-fayes-first-100-days-in-office/
7. https://carnegieendowment.org/research/2024/04/senegal-from-constitutional-crisis-to-democratic-restoration?lang=en
8. https://www.voaafrica.com/a/senegal-s-new-president-visits-mauritania-in-first-trip-abroad-/7575227.html
9. https://www.usip.org/publications/2024/04/senegal-just-saved-its-democracy-helps-all-west-africa
10. https://www.institutmontaigne.org/en/expressions/senegal-voice-africa-russian-ukrainian-crisis
11. https://iranpress.com/senegal-s-pm-calls-for-isolation--boycott-of-israel