مصر وطريق الحرير

مصر وطريق الحرير

المقدمة

 

اعتاد البشر منذ القدم على الترحال من مكان إلى آخر وإقامة علاقات تجارية مع من جاورهم من الأقوام متبادلين السلع والمهارات والأفكار. فشُقت في المنطقة الأوروبية الآسيوية على مر التاريخ طرق للمواصلات ودروب للتجارة تشابكت وترابطت مع الوقت لتشكل ما يُعرف اليوم بتسمية "طرق الحرير"؛ وهي طرق برية وبحرية تبادل عبرها الناس من كل أصقاع العالم الحرير وغيره الكثير من السلع. وتُعتبر الطرق البحرية جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة فمثّلت حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات اسمها الشائع "طرق التوابل". 

ولم تحمل هذه الشبكات الواسعة في طياتها السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل حركة الشعوب المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية الآسيوية وحضاراتهم. ولم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول طرق الحرير وإنما التلاقح الفكري والثقافي الذي كان أيضاً سائداً في المدن المحاذية لهذه الطرق حتى أن العديد من هذه المدن تحوّل إلى مراكز للثقافة والتعلم. وشهدت المجتمعات القاطنة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية، فما لبثت أن ازدهرت فيها اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.

ويُعتبر مصطلح "طريق الحرير" في الواقع مصطلحا حديث العهد نسبيا إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق اسما بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، اسم "دي سيدينستراس" (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات هذه ولا تزال هذه التسمية المستخدمة أيضاً بصيغة الجمع تلهب الخيال بما يلفها من غموض موحٍ.

إنتاج وتجارة الحرير

الحرير عبارة عن نسيج جاء قديماً من الصين موطنه الأصلي، ويتكوّن من ألياف بروتينية تنتجها دودة القز عندما تقوم بغزل شرنقتها، وقد بدأت صناعة الحرير بحسب المعتقدات الصينية عام ٢٧٠٠ قبل الميلاد تقريبا. وكان الحرير يعدّ من المنتوجات النفيسة جدا فانفرد بلاط الإمبراطورية الصينية باستخدامه لصنع الأقمشة والستائر والرايات وغيرها من المنسوجات القيّمة. وبقيت تفاصيل إنتاجه سرا حفظته الصين بشدة طيلة ٣٠٠٠ سنة تقريبا بفضل مراسيم إمبريالية قضت بإعدام كل من يتجرأ على إفشاء سرّ إنتاج الحرير لشخص غريب. وتحوي قبور مقاطعة هوبي، العائدة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، نماذج فاتنة لهذه المنسوجات الحريرية ومن بينها الأقمشة المزخرفة والشاشات والحرير المطرّز وأولى الألبسة الحريرية بجميع أشكالها.

إلا أن احتكار الصين لإنتاج الحرير لا يعني أن هذا المنتوج انحصر في الإمبراطورية الصينية دون منازع - فعلى العكس من ذلك، استُخدم الحرير هديةً في العلاقات الدبلوماسية وبلغت تجارته شأناً كبيراً بدءاً بالمناطق المتاخمة للصين مباشرة ووصولاً إلى المناطق المتنائية، بحيث بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (سنة ٢٠٦ ق.م.- سنة ٢٢٠ ميلادي). وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.

وفي وقت ما من القرن الأول قبل الميلاد، دخل الحرير إلى الإمبراطورية الرومانية حيث اعتُبر سلعة فاخرة تغري بغرابتها وعرف رواجاً هائلاً وصدرت مراسيم إمبريالية لضبط سعره. وبقي يلاقي إقبالاً شديداً طوال القرون الوسطى حتى إن قوانين بيزنطية سُنت لتحديد تفاصيل حياكة الألبسة الحريرية وهذا خير دليل على أهميته إذ كان يعدّ نسيجاً ملكياً خالصاً ومصدراً هاماً للمداخيل بالنسبة إلى السلطة الملكية. وفضلاً عن ذلك، كانت الكنيسة البيزنطية تحتاج إلى أعداد ضخمة من الملبوسات والستائر الحريرية. ومن هنا، مثّلت هذه السلعة الفاخرة أحد المحفزات الأولى لفتح المسالك التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى.

وكان الإلمام بطريقة إنتاج الحرير أمراً بالغ الأهمية وعلى الرغم من سعي الإمبراطور الصيني إلى الاحتفاظ جيداً بهذا السر تجاوزت صناعة الحرير في النهاية حدود الصين لتنتقل إلى الهند واليابان أولاً ثم الإمبراطورية الفارسية وأخيراً الغرب في القرن السادس ميلادي.

 

توسع الطرق وتنوع البضائع

مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لإقامة الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، لم يشكل الحرير سوى واحد من المنتوجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. وازداد الإقبال على طرق الحرير وتوافد المسافرين عليها طوال القرون الوسطى، وقد بقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على لدانتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً. كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد - فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق البحر الهندي باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.

وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ. فحاول تجار الإمبراطورية الرومانية مثلا تجنب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين. وكذلك، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحيانا ًكانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناء على ذلك.

وشكلت التجارة البحرية فرعا آخر اكتسى أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً باسم طرق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في إندونيسيا (المعروفة أيضا باسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من ١٥٠٠٠ كيلومتر، ابتداء من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.

ويتوغل تاريخ هذه الطرق البحرية في العلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. فقد ارتبطت في واقع الأمر شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن ميلادي. وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر مجتمعةً. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً غفيرة من الزوار على غرار زنزبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون باستمرار.

وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دا جاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيين بالطرق البحرية المارة من جنوب شرق آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة. وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.

وتصوّر الخارطة أعلاه التنوع الهائل للطرق المتاحة للتجار الذين كانوا يسافرون محملين بمختلف أصناف البضائع ويأتون براً أو بحراً من شتى بقاع الأرض. واعتادت فرادى القوافل التجارية في غالب الأحيان على قطع مسافة معينة من الطريق ثم التوقف لنيل قسط من الراحة والتزوّد بالمؤن أو حط الرحال وبيع حمولاتها في مواقع منتشرة على طول الطرق، وقد أفضى ذلك إلى نشأة مدن وموانئ تجارية ترشح بالحياة. واتسمت طرق الحرير بالحيوية وتخللتها المنافذ والمداخل؛ فكانت تباع البضائع للسكان المحليين القاطنين على طولها واعتاد التجار على إضافة المنتوجات المحلية إلى حمولاتهم. ولم تكتف هذه العملية بإثراء الأرباح المادية للتجار وتنوّع أصناف بضائعهم وإنما أتاحت أيضاً تبادل الثقافات واللغات والأفكار على امتداد طرق الحرير. 

طرق الحوار

لعل الإرث الأكثر دواما الذي تركته طرق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها كي ينجحوا في عقد مفاوضاتهم. فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية. كما تجرأ العديد من المسافرين على سلك هذه الطرق للدخول في عملية التبادل الفكري والثقافي التي كانت عامرة في المدن الممتدة على طول هذه الطرق. وشهدت هذه الطرق تبادلاً للمعارف العلمية والفنية والأدبية فضلاً عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية، فما لبثت أن ازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت. ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طرق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة. كما تتصف أنظمة الري المنتشرة في آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل المسافرين الذين لم يحملوا معارفهم الثقافية فحسب وإنما تشرّبوا معارف المجتمعات التي نزلوا فيها أيضاً.

فالرجل الذي ينسب إليه عادة فضل إقامة طرق الحرير، الجنرال زانغ كيان الذي فتح الطريق الأولى بين الصين والغرب في القرن الثاني قبل الميلاد، كان في الحقيقة في بعثة ديبلوماسية أكثر منها تجارية. فقد أرسل الإمبراطور ودي من سلالة الهان عام ١٣٩ قبل الميلاد زانغ كيان إلى الغرب لعقد تحالفات ضد شعوب غيونغنو وهم الأعداء التاريخيون للصينيين، ولكنهم قبضوا عليه وسجنوه. وأفلح في الهروب بعد ثلاث عشرة سنة وتمكّن من العودة إلى الصين. وأُعجب الإمبراطور بكثرة التفاصيل التي قدمها وبدقة تقاريره، فأرسله في بعثة أخرى عام ١١٩ قبل الميلاد لزيارة عدة شعوب مجاورة للصين، وهكذا شقّ زانغ كيان أولى الطرق الممتدة من الصين حتى آسيا الوسطى.

وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون على السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة، ويمثل ما دوّنوه من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات. ولا تتمتع مذكرات شوان زانغ (وتمتد مذكراته على ٢٥ سنة من عام ٦٢٩ ميلادي إلى عام ٦٥٤ ميلادي) بقيمة تاريخية هائلة فحسب وإنما استوحت منها روايةٌ هزلية من القرن السادس عشر بعنوان "الحج إلى الغرب" أحداثَها، وأصبحت هذه الرواية إحدى أعظم الروايات الصينية الكلاسيكية. وقصد الكهنة الأوروبيون في القرون الوسطى الشرقَ في بعثات دبلوماسية ودينية، وبخاصة جيوفاني دا بيان دل كاربيني المرسل من البابا إينوشنسيوس الرابع في بعثة إلى بلاد المغول من عام ١٢٤٥ حتى عام ١٢٤٧، ووليام أف روبروك وهو كاهن فلمنكي من الفرنسيسكان أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع للاتصال بقبائل المغول بين عامي ١٢٥٣ و١٢٥٥. ولعل المستكشف البندقي ماركو بولوا هو أوسعهم شهرة وقد أمضى بين عامي ١٢٧١ و١٢٩٢ أكثر من ٢٠ سنة في الترحال وأضحى سرده للتجارب التي خاضها شائعاً جداً في أوروبا بعد وفاته.

وأدت الطرق كذلك دورا أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية الآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على هذه الأديان التي ارتحلت على طرق الحرير إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلام والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى إندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذي ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.

السفر على طرق الحرير

تطوّر السفر عبر طرق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل وهي عبارة عن مضافات وأنزال كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق. وكانت هذه الخانات المنتشرة على طرق الحرير من تركيا إلى الصين توفر فرصة دائمة للتجار لكي يستمتعوا بالطعام وينالوا قسطاً من الراحة ويستعدوا بأمان لمواصلة رحلتهم، ولكي يتبادلوا البضائع ويتاجروا في الأسواق المحلية ويشتروا المنتجات المحلية ويلتقوا بغيرهم من التجار المسافرين أيضاً، مما يتيح لهم تبادل الثقافات واللغات والأفكار.

ومع مرور الوقت، تطورت الطرق التجارية وتنامت أرباحها لتزداد بذلك الحاجة إلى خانات القوافل، تسارعت عملية تشييدها في شتى مناطق آسيا الوسطى بدءاً من القرن العاشر حتى مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت من الصين إلى شبه القارة الهندية وإيران والقوقاز وتركيا وحتى إلى شمال أفريقيا وروسيا وأوروبا الشرقية. ولا يزال العديد من هذه الخانات قائماً حتى يومنا هذا.

وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن يضطر التجار (وحمولاتهم الثمينة على وجه التحديد) لأن يبيتوا في العراء عدة أيام أو ليالي ويكونوا عرضة لمخاطر الطريق. وأدى ذلك في المتوسط إلى بناء خان كل ٣٠ إلى ٤٠ كيلومتراً في المناطق المخدومة بشكل جيد

وكان التجار البحارة يواجهون تحديات متعددة أثناء رحلاتهم الطويلة. وعزّز تطور تقنية الملاحة ولا سيما المعارف المتعلقة ببناء البواخر من سلامة الرحلات البحرية خلال القرون الوسطى. وأنشئت الموانئ على السواحل التي تقطعها هذه المسالك التجارية البحرية، ما وفّر فرصاً حيوية للتجار لبيع حمولاتهم وتفريغها وللتزوّد بالمياه العذبة علما بأن أحد المخاطر الكبرى التي واجهها البحارة في القرون الوسطى هو النقص في مياه الشرب. وكانت جميع البواخر التجارية التي تعبر طرق الحرير البحرية معرضة لخطر آخر هو هجوم القراصنة لأن حمولاتها الباهظة الثمن جعلتها أهدافا مرغوبة.

إرث طرق الحرير

في القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طرق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في خوض المغامرات. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان في غرب الصين، تحديداً في منطقة تعرف الآن باسم شينجيانغ، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.

وما زال العديد من المباني والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانئ والمدن. إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة المترابطة رغم اختلافها التي نمت طوال آلاف السنين بمحاذاة هذه الطرق. فلم يولّد مرور التجار والمسافرين على اختلاف جنسياتهم تبادلاً تجارياً فحسب وإنما ولّد أيضاً على نطاق واسع عملية تفاعل ثقافي مستمر. وعليه، تطورت طرق الحرير بعد أولى رحلاتها الاستكشافية لتغدو قوة دافعة حثت على تكوين شتى المجتمعات القاطنة في المنطقة الأوروبية الآسيوية وأبعد منها.

طريق الحرير الجديد

مع بدايات القرن الـ ٢١، بدأت أهمية طريق الحرير تتجلى وتزدهر مرة أخرى، فقد أنشئ على طريق الحرير القديم خط السكة الحديد الدولية الذي يبدأ من مدينة ليانيونقانغ شرقاً وينتهي في روتردام بهولندا، بطول عشرة آلاف وتسعمائة كيلومتر، وأصبحت التجارة بين الصين ودول آسيا الوسطى أكثر نمواً. وفي عام ٢٠٠٨، تم توقيع خطاب نوايا في مدينة جنيف السويسرية للاستثمار في إحياء طريق الحرير القديم وبعض الطرق البرية في المنطقة الآوراسية بين ١٩ دولة آسيوية وأوروبية، منها الصين وروسيا وإيران وتركيا مما أعاد الروح إلى طريق الحرير القديم.

  وفي السابع من سبتمبر العام ٢٠١٣، طرح الرئيس الصيني شى جين بينج للمرة الأولى مبادرة بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، خلال كلمة ألقاها بجامعة نازارباييف فى كازاخستان. وفي الثالث من اكتوبر من ذات العام اقترح أيضا بناء طريق الحرير البحري للقرن الـ٢١، خلال كلمته أمام البرلمان الإندونيسي.

وبحلول العام ٢٠١٤م، أصدرت الصين الخطة الإستراتيجية لبناء "حزام واحد، طريق واحد". وبنهاية العام تحديدا في التاسع والعشرين من ديسمبر تم إنشاء صندوق طريق الحرير برأسمال ٤٠ مليار دولار، ليقدم الصندوق دعما لبناء البنية التحتية وتنمية الموارد والتعاون الصناعي في البلدان الواقعة على طريق الحرير البري والبحري.

وفي الثامن والعشرين من مارس العام ٢٠١٥م، أصدرت كلا من؛ اللجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح، ووزارة الخارجية، ووزارة التجارة بشكل مشترك «التطلعات والأعمال حول دفع البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين»، وتعتبر هاتان الوثيقتان المخطط العلني للدفع ببناء «حزام واحد، طريق واحد» رسميا، وتقدمان شرحا للخلفيات والمبادئ والإطار العام للمبادرة الصينية، وتحددان المحتويات وآليات المبادرة بشكل كامل.

وفي السادس عشر من يناير العام ٢٠١٦م، بدء التشغيل الرسمي للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والذي اقترحته الصين ويضم ٧٠ عضوا، ويهدف إلى تقديم القروض لمشروعات البنية التحتية في دول «الحزام والطريق»، ويعمل برأس مال ١٠٠ مليار دولار أمريكي.

وفي السابع والعشرين من إبريل العام ٢٠١٩م، افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ قمة "طرق الحرير الجديدة" والتي استمرت ليومين بمشاركة ممثلين عن ١٥٠ بلدا، وتهدف التسويق لمشروع "الحزام والطريق"، وهو مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، ويهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية.

يغطي المشروع ٦٦ دولة في ثلاث قارات، هي آسيا وأوروبا وأفريقيا، وينقسم إلى ثلاثة مستويات، تشمل مناطق محورية ومناطق للتوسع ومناطق فرعية. ويتضمن فرعين رئيسين: البري "حزام طريق الحرير الاقتصادي"، والبحري "طريق الحرير البحري".

يمتد طريق الحرير البحري من الساحل الصيني عبر سنغافورة والهند باتجاه البحر المتوسط، أما الفرع البري من المبادرة فيشمل ست ممرات هي:

  • الجسر البري الأوراسي الجديد الذي يمتد من غربي الصين إلى روسيا الغربية.
  • ممر الصين – مونغوليا – روسيا الذي يمتد من شمالي الصين إلى الشرق الروسي.
  • ممر الصين – آسيا الوسطى – آسيا الغربية الذي يمتد من غربي الصين إلى تركيا.
  • ممر الصين – شبه جزيرة الهند الصينية الذي يمتد من جنوبي الصين إلى سنغافورة.
  • ممر الصين – باكستان الذي يمتد من جنوب غربي الصين إلى باكستان.
  • ممر بنغلاديش – الصين – الهند – ميانمار الذي يمتد من جنوبي الصين إلى الهند.

 

 وتربط خط السكك الحديدية الصين بأوروبا، حيث تصل ٦٢ مدينة صينية بـ٥١ مدينة أوروبية متوزعة على ١٥ دولة.  وفي إندونيسيا يعد خط سكة حديد جاكرتا-باندونغ فائق السرعة مشروعا نموذجيا في إطار مبادرة الحزام والطريق التي طرحتها الصين، حيث يربط هذا الخط العاصمة الإندونيسية، جاكرتا، مع مدينة باندونغ.

وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تتعاون شركة ((هاربين إليكتريك انترناشنال)) الصينية مع شركة ((أكوا باور)) السعودية ضمن مبادرة الحزام والطريق في مشروع مشترك لبناء مجمع حصيان لإنتاج الطاقة بتقنية الفحم النظيف في دبي، ليساهم بشكل كبير في التقليل من تكلفة الكهرباء للأسر المحلية.

ويعد أول مشروعات التعاون السعودي - الصيني داخل المملكة في مبادرة «الحزام والطريق»، هو مشروع مصنع شركة «بان آسيا» الصينية للصناعات الأساسية والتحويلية بمدينة جازان.

وفي باكستان شيّدت الشركات الصينية سلسلة مشاريع بنى تحتية شملت طرقا وسككا حديدية ونقاط إنتاج طاقة، لتربط الساحل الجنوبي للبلاد بمدينة كشغار الصينية (شمال غرب)، كما يتضمن هذا المشروع الذي يسمى "الممر الاقتصادي الصين-باكستان"، تشييد طرق سريعة وسدود كهرمائية وإدخال تعديلات على مرفأ غوادر الباكستاني على بحر العرب.

وفي إفريقيا على سبيل المثال؛ تصل سكة حديد مسماة "طرق الحرير" العاصمة الكينية نيروبي بمومباسا، والتي تحتوي على المرفأ الأبرز في البلاد المشرف على المحيط الهندي.

 وفي أوغندا، تم تعبيد طريق حديث يبلغ طوله خمسين كيلومترا إلى المطار الدولي بالأموال الصينية، كما تكفلت الصين بتحويل مدينة ساحلية صغيرة في تنزانيا إلى ميناء قد يصبح أكبر موانئ القارة الأفريقية.

وعلى بعد نحو ساعة واحدة بالسيارة جنوبي الجزائر العاصمة، توجد لافتة ثنائية اللغة صينية-فرنسية عليها عبارة "طريق واحد، حلم واحد" على جبال الأطلس، للتعريف بمشروع على طول ٥٣ كم، قسم شفة من الطريق السيار شمال - جنوب في الجزائر الذي تنفذه شركة المجموعة الوطنية الصينية المحدودة لهندسة الإنشاءات.

تعد الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ العديد من الأعوام. وفي إطار مبادرة الحزام والطريق، ضاعف الجانبان جهودهما لدفع التعاون في مختلف المجالات.

وتهدف الصين لتأمين طريق أكثر سرعة وأمانا عبر هذا الطريق البحري لوارداتها النفطية من الشرق الأوسط ؛ فأنشأت ورشة لوبان للحرف والتي تغطي عدة مجالات وتخصّصات مثل الأتمتة، والحوسبة السحابية، والمعلومات الإلكترونية، والصيانة الميكانيكية، والروبوتات الصناعية، وتطبيقات الطاقة الحرارية في المملكة المتحدة، ومصر، وكمبوديا، والبرتغال، وجيبوتي، وكينيا وغيرها من ٢٠دولة أخرى نظام تعليم مهني دولي يضمن المستويات الكاملة للتعليم المهني، من المستوى الإعدادي إلى الثانوي، ومستوى البكالوريوس التطبيقي حتى الدراسات العليا. بالإضافة للتوسع في إنشاء المركز الثقافية والمعاهد الصينية لنشر وتعليم اللغة والثقافة الصينية في العديد من بلدان العالم.

 

دور مصر في مبادرة الحزام والطريق

تُعد مصر أول دولة إفريقية قامت بتوقيع اتفاقية الحزام والطريق مع الصين.

وفي إبريل من العام ٢٠١٩م، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الصينية بكين، في القمة الثانية لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي.

جاءت مشاركة السيد الرئيس بالقمة في إطار أهمية مبادرة الحزام والطريق على الصعيد الدولي، وحرص مصر على التفاعل معها في ظل أن مصر تعد من الشركاء المحوريين للصين في المبادرة، في ضوء الأهمية الاستراتيجية لقناة السويس كأحد أهم الممرات البحرية للتجارة العالمية، فضلًا عما تمثله المشروعات القومية الكبرى الجاري تنفيذها في مصر مثل المنطقة الاقتصادية لمحور قناة السويس من أهمية في إطار المبادرة، بالإضافة إلى اتساق محاور المبادرة مع العديد من أولويات التنمية والخطط القومية المصرية وفقًا لخطة مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠، فضلًا عن علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تجمع بين مصر والصين.

وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق" ساهمت الصين في العديد من المشاريع الرائدة في التعاون المصري الصيني؛ ففي العام ٢٠٠٨م،

تأسست منطقة التعاون الاقتصادي المصري الصيني " تيدا"، على مساحة ٧.٣ كلم مربع وقد توسعت ست كيلومترات مربعة عام ٢٠١٦ بموجب اتفاقية تعاون وقعها رئيسي البلدين، وتعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر، وجذبت الاستثمارات بشكل موسع.

وفي العام ٢٠١٥ قام بنك الصين للاستيراد والتصدير (EXIM) بتوقيع صفقة لتمويل مشروعات بنية تحتية بقيمة ١٠ مليارات دولار في مصر، والتي شملت قطاع الطاقة، وتوسيع ميناء الإسكندرية، وتطوير السكك الحديدية في المناطق الحضرية.

ومنذ العام ٢٠١٨م، وتقوم المجموعة الصينية بإنشاء البرج الأيقوني، الذي يبلغ ارتفاعه ٣٨٥٫٨ متر، هو واحد من ٢٠ ناطحة سحاب في إطار مشروع منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية الجديدة في مصر.

كما ساهمت الصين في إنشاء خط سكة حديد مدينة العاشر من رمضان الخفيف شرق القاهرة، عاصمة مصر.

وتعمل مصر على تنفيذ ممر الشمال - الجنوب (طريق القاهرة - كيب تاون)، والذي يهدف إلى زيادة مُعدلات تدفقات التجارة والاستثمار البيني، والذي يساهم في تعزيز جهود دول القارة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والارتقاء بمستوى معيشة المواطن الأفريقي. هذا بالإضافة لمشروع الربط الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط، كأحد مشروعات البنية التحتية المُدرجة ضمن أولويات تجمع الكوميسا، لما يُحققه من مصالح اقتصادية وتجارية متعددة.

إن مبادرة "الحزام والطريق" تعمل على تعزيز التعاون المشترك، وتساهم في تنمية كل الدول المشاركة بها بما يعزز بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.

 

المصادر

 

موقع اليونسكو.

موقع البنك الدولي.

موقع رئاسة جمهورية مصر العربية.

موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية.

موقع مركز المعلومات ودعم واتخاذ القرار – رئاسة مجلس الوزراء – مصر.

شبكة الصين بالعربية.

صحيفة الشعب الصينية.