آفاق الفرنكوفونية في عالمنا العربي
بقلم دكتور/ محمود عزت
رئيس فريق عمل مركز الدراسات الاستراتيجية بمكتبة الإسكندرية.
الفرنكوفونية؛ كلمة فرنسية عُرّفَت في المعاجم الفرنسية بأنها التجمع الذي يضم الشعوب الناطقة باللغة الفرنسية، وكذا استخدام اللغة الفرنسية كاللغة الأم، أو اللغة الأولى، أو اللغة الرئيسية.
يعد مصطلح الفرنكوفونية مصطلحًا معاصرًا، إذ أطلق هذا اللفظ من قبل الجغرافي ريكلوس والذي أعطاها الصيغة اللغوية حسب الجغرافيا التي تنتشر فيها اللغة الفرنسية. وبشكل أكثر تحديدا عرف ريكلوس مفهوم الفرنكوفونية بأنها "مجموعة السكان الذين يتكلمون الفرنسية. وتعرف في الوقت الحالي بأنها" مجموعة الدول والأقاليم الناطقة بالفرنسية. ويرى الباحثون العرب أن حقيقة الفرنكوفونية هي "أيديولوجيا تعيد إنتاج علاقات التبعية، مستثمرة الموروث اللغوي الاستعماري لأغراض سياسية واقتصادية".
والفرنكوفونية في هيئتها ومضمونها نسيج يختلف عن القيادات الفكرية والسياسية التي واجهت العالم العربي، إذ تختص الفرنكوفونية بفرنسا خاصة، في حين تنضوي كل القيادات الغربية ومن وفي العالم العربي والإسلامي، يذهب بعض الباحثين إلى أن الفرنكوفونية في مفهومها العام والخاص ماهي إلا "تيار حديث النشأة، وليس لها جذور تاريخية عميقة، إذ انطلقت في أعمالها بعد إحياء فكرتها عام ١٩٧٠م، إلا أن التاريخ يشهد بوجود آثار للفرنكوفونية ونشاطها في العالم العربي والإسلامي على حد سواء، وفق أهدافها ومساعيها، وذلك منذ أول معاهدة عثمانية مع فرنسا عرفت بالامتيازات الأجنبية عام ١٥٢٥م. وكان هدفها حماية التجار الأجانب في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، لكنها امتيازات سُحبت فيما بعد لمصلحة فرنسا.
وفي الوقت الحاضر، لا تزال تحظى الفرنكوفونية باهتمام السياسية الفرنسية، الشؤون الفرنكوفونية "تديرها بشكل مباشر، ومتخصص في فرنسا اليوم وزارة التعاون والتنمية والفرنكوفونية، ولعل تخصيص وزارة معنية بالشؤون الفرنكوفونية في فرنسا يعطي إشارة واضحة على أهمية الفرنكوفونية في أجندة الحكومة الفرنسية، ومدى الطموح السياسي والآمال التي تضعها فرنسا في السياسة الفرنكوفونية حاضرًا، ومستقبلاً.
والملاحظ في عالمنا العربي هو تنوع أوضاع الفرنكوفونية؛ فإذا كان التاريخ أو الجغرافيا من العناصر التي تقرب دول مصر ولبنان والأردن والجزائر وتونس والمغرب، فإن الخيارات السياسية في تلك الدول وخيارات شعوبها وكذا التطورات الاقتصادية، كل تلك العوامل أضفت على الفرنكوفونية في العالم العربي إطار للتنوع. كذلك من الملاحظ أن الفرنكوفونية في العالم العربي هي فرنكوفونية مدرسية وجامعية بالأساس وأصبحت تقترن بمؤشر من مؤشرات التنمية المتمثل في المؤسسة التعليمية كالمدرسة والجامعة، واستثمار على المدى البعدي، فتعلُّم الفرنسية. ونجد أن التعليم الجامعي بالفرنسية أصبح يحتل مكانة مهمة واتسع ليشمل تخصصات كثيرة ولم يعد منحصرًا في العلوم الإنسانية فقط ولكن امتد لكافة فروع العلوم والتكنولوجيا.
إن أي تفكير بشأن موقع لغة أجنبية، وحديثنا هنا عن اللغة الفرنسية، في أي دولة عربية لا يمكن التطرق إليه دون إغفال العديد من العوامل منها:
- الوضع الاجتماعي والسيكولوجي للغة الفرنسية في الدولة: أي وظائف اللغة الفرنسية واستخدامها في الواقع والحياة اليومية، وتصورها لدى مستخدميها، واتصالها بباقي اللغات في الدولة وعلاقتها باللغة العربية ومدى التكامل والانسجام بينهما.
- الوضع الثقافي: وهنا نعني بالأهداف المرجوة من خلال تعلم الفرنسية والتفاعل بين مستخدميها وناطقيها مع المحيط الثقافي لها سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
فالهدف هنا ليس مجرد ليس الحديث عن موقع اللغة الفرنسية كلغة أجنبية، ولكن عن واقعها وتطورها الثقافي والمجتمعي ف في العالم العربي.
- العوامل السياسية والأيدولوجية: ومنها تطوّر دور الفرنسية والعلاقات بين كل دولة من الدول المذكورة وفرنسا وكذا شركائها الفرنكوفونيين في الدول الأخرى، واستعمال الفرنسية في المجالات المختلفة، ومدى اتساع نشاط الفرنكوفونية في الدولة أو تقصله.
- الاختلافات الجغرافية والاجتماعية والمهنية داخل الدولة ذاتها: فقط تكون الفرنسية لغة أجنبية أولى أو لغة أجنبية ثانية.
الآفاق التربوية والتعليمية للفرنكوفونية في الدول العربية:
تتعلق تلك الآفاق بنظرة الطلاب إلى اللغة الفرنسية والثقافة الفرنكوفونية. فنظرة الطلاب والتلاميذ للغة الفرنسية في بعض الدول العربية يجب أن يتم توجيهها إلى إبراز الأهمية الثقافية والوظيفية للغة الفرنسية وتكاملها مع اللغة العربية، مما يجعل اكتساب وتعلم اللغة الفرنسية له دلالة تعليمية حقيقية
أيضًا، استخدام اللغة الفرنسية يجب أن يكون وسيلة لإدراك المعرف الخاصة في الميادين العلمية والتطبيقية والأدبية المختلفة وجعل المتعلّم أن يدرك أن تعلم اللغة الفرنسية هو أداة لتطوير الثقافة الوطنية والذاتية له. كذلك العمل على تمكين الطلاب من الاستفادة من الوسط الثقافي الفرنكفوني خارج إطار المؤسسة التعليمية والحث على اشتراكهم في الأنشطة الثقافية والتواصل مع الملحقيات الثقافية الفرنكوفونية الموجودة في الدولة مما يشكل عامل جذب وتحفيز لديهم، وكذلك تعزيز قيم التسامح والسلام وقبول الآخر، وفهم الآخر.
ومن بين التوجهات الخاصة بالنهوض بمكانة اللغة والثقافة الفرنسية، هي عملية تشجيع الدراسات القائمة على منهجية تعليم متقاربة للغتين العربية والفرنسية، وهو ما يسهل على المتعلّم للغتين عملية التعليم اللغوي والرفع من وتيرته وتنمية الوعي بخصوصية النظام اللغوي الفرنكفوني والذي يختلف عن نظام لغته.
وهنا يمكننا أن ننتقل بالحديث إلى دور جامعة الدول العربية والمنظمة الدولية الفرنكوفونية، واللتان تمتلكان مؤهلات تاريخية ومصير متشابه في ظل الرهانات الدولية الحالية بما فيها الدفاع عن الهوية والتنوع الثقافي والدفاع عن التعددية اللغوية في ظل العولمة وكذلك الارتقاء بثقافة السلام والديمقراطية. فعلا المنظمتين تقوية الأنظمة التربية المبنية على التعدد اللغوي وازدواجيته، مع الحرص على أن يكون تعلُّم لغة كل مجموعة من خلال الدراسة والنشر وأن تكفل لها حظوظ حقيقية للعيش داخل المجموعة الأخرى، والعمل بشكل جدي لتهيئة البيئة الملائمة لتحقيق التوازن بين اللغتين. فإعادة تحديد نظام لا يسود فيه الأحادية أو القطبية والتي تولد الصراعات الثقافية والحضارية، وبالتالي نظام مبني على تعدد لغوي قوي بين العربية والفرنكوفونية، وقادر على توفير حظوظ الازدهار وتطوير التعليم والبحث العلمي. كذلك تشجيع ثقافة السلام والديمقراطية يمكن أن يتم من خلال أنشطة المنظمات الفرنكوفونية وجامعة الدول العربية والأنشطة المشتركة بينها، عن طريق برامج التعدد اللغوي وتطوير الانفتاح الثقافي على المستوى القطاعات الثقافية والتعليمية وبذل جهد خاص في عمليات التبادل الشبابي والطلابي، وتشجيع الإنتاج الثقافي المكتوب والمرئي والمسموع ولا سيما أن فرنسا حاضرة بقوة في عالمنا العربي ثقافيًا وعلميًا وفنيًا بل ورياضيًا، حتى وإن اختلفت درجة الحضور من دولة إلى أخرى.
إن العلاقات داخل المجتمع الفرنكوفونية العربي لا يمكن أن تكون ذات اتجاه وحيد، فينبغي إعطاء الأهمية لنشر الثقافة التي جاءت بها اللغة الفرنسية لعالمنا لعربي وكذلك لحضور الثقافة العربية في العالم الفرنكوفونية. والفلسفة المستقبلية للفرنكوفونية العربية هي فلسفة ذات جانب إنساني، يدعو إلى التمازج الثقافي والتعدد بمختلف أشكاله، والوعي التام بأن اللغتين الفرنسية والعربية لا تسيران بشكل متوازي منفصل ولكنهما موجودتان معًا في حالة من التعايش والتآلف، ولهذا الوضع امتدادات تتمثل في عمليات التوأمة الثقافية والحضارية بين المدن مثل مارسيليا والجزائر العاصمة والإسكندرية والدار البيضاء وسوسة وتونس العاصمة وبيروت. ولعل التبادل والارتباط الثقافي بين الدول الفرنكوفونية وبين الدول العربية الفرنكوفونية تبعث على التفاؤل بشأن التكامل والانسجام العربي الفرنكوفوني، ففي كثير من المجالات عبّرت الثقافة الفرنسية عن نفسها باللغة العربية، ونفس الشأن بالنسبة للثقافة العربية التي ازدهرت عبر اللغة الفرنسية في الكثير من الأعمال العلمية والأدبية والفنية بالفرنسية. فمنذ الثلث الأخير من القرن العشرين شهد العالم تحولاً متبادلاً في نظرة كل من الشرق والغرب إلى الآخر تظهر معالمه في الإنتاج الثقافي. فلم يعد المثقف الفرنكوفوني في العالم العربي ضحية تهمة الاستلاب للغرب، لأنه يتجذر في ثقافته الأصلية لينطلق منها إلى العالمية بواسطة اللغة الفرنسية. ولم تعد هذه اللغة لغة الآخر لأنها أُخِضعَت كما ذكرنا لاستخدامات جديدة، كما أصبحت الشعوب العربية تعي أن اللغة الفرنسية كوسيلة تعبير مشتركة تمكن كل واحد منهما من التعرف على الآخر. ولتجد فرنسا نفسها أمام تحدٍ كبير، ألا وهو أن تثبت بالممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية أمانتها للقيم التي قامت عليها الثقافة الفرنسية، والتي تشكل معنى الانتماء للفرنكوفونية. وضرورة وجود سياسة فرنكوفونية واضحة المعالم في معظم الدول الفرنكوفونية وعدم الاقتصار على تشجيع انتشار اللغة الفرنسية دون الأخذ بعين الاعتبار علاقتها باللغات الأخرى.
إن الفرنكوفونية مطالبة من خلال مؤسساتها في العالم العربي بالاضطلاع بدور علمي وتربوي وأخلاقي، باعتبار أنها تمثل القيم التي لا تزال راسخة وثابتة وتتعدى اهتمامات المجال الجغرافي والسياسي والمحافظة على التنوع وغنى الثقافات والهويات الوطنية وعدم السعي لطمس هذا التنوع. فالمسؤولية يجب أن تكون مشتركة بمعنى أنه على الدول العربية الفرنكوفونية أن تخرج من عباءة المتلقي إلى القيام بدور المبادر والمشارك الفعلي لوضع سياسة فرنكوفونية تلبي احتياجاتها. فتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد جعل العالم قرية واحدة صغيرة، وتعلّم اللغات والثقافات المختلفة قد أصبح حاجة فعلية، مما يفترض تجاوز العلاقة التنافسية بين اللغات نحو التكامل والتنوع. فالفرنسية بما تملك من بعد إنساني تضمن لنفسها حيزاً مميزاً، أما العربية فهي رب لغة الهوية والانتماء.