شركة النصر للتصدير والاستيراد... ذراع مصر الطولى في القارة الإفريقية
لم تعرف مصر في تاريخها الاقتصادي الحديث معنى التواصل مع إفريقيا إلا من خلال شركة النصر للتصدير والاستيراد التي جرى إنشاؤها في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من أجل إقامة علاقات ذات جذور قوية مع دول القارة السمراء. ففي العام ١٩٥٨م، جرى إنشاء شركة تحت اسم «محمد غانم وشركاه» باعتبارها إحدى شركات القطاع الخاص وكان رأس مال الشركة وقتها ٢٥ ألف جنيه ومع صدور القوانين الاشتراكية جرى تأميمها وضم عددًا من المكاتب لها ليتغير اسمها إلى «شركة النصر للتصدير والاستيراد» وأصبح رأس مالها مليون جنيه. ومن هنا بدء نشاطها الحقيقي، وفي هذا التوقيت كانت إفريقيا كلها تحت الاحتلال باستثناء مصر وليبيا وتونس والمغرب، كان الرئيس جمال عبد الناصر يتحرك في سياساته الخارجية وفقًا لنظريته عن الدوائر الثلاثة التي يجب أن تتحرك فيها السياسة المصرية لتضمن مكانتها كقوة إقليمية عظمى في مجالها الحيوي، وهى الدائرة العربية تحيطها الدائرة الإفريقية ثم تحيط بالدائرتين الدائرة الإسلامية، وفى إطار الدور المصري في إفريقيا كان عبد الناصر حريصًا على التواجد في كل البلدان الإفريقية لحماية الأمن القومي المصري، ومن أجل دعم حركات التحرر الوطني الأفريقي، ومطاردة النفوذ الاستعماري، ومحاربة التسلل الإسرائيلي لدول القارة السمراء.
وبالإضافة لكون القارة مغلفة بالاستعمار والفقر والمرض، بدا الوضع معقدًا فصدرت الأوامر من عبد الناصر إلي السيد محمد غانم مؤسس الشركة بالتفكير في الدخول بقوة في أعماقها الأمر الذى استوجب العمل بشكل دوري على تنمية موارد الشركة من أجل الحصول على أموال لزيادة عدد الأفرع وجرى ذلك بالاتفاق مع وزير المالية على فتح حساب في البنك الأهلي فرع بيروت من أجل توفير العملة الصعبة لإنشاء الأفرع في القارة السمراء، وامتلك غانم حسًا دعائيًا بعد دراسة متأنية للقارة فاختار مواقع الأفرع في المدن الرئيسية في إفريقيا التي تطل على موانئ بحرية ولجأ إلى المباني العالية والمرتفعة كي تلفت انتباه المارة وتدعوهم للتساؤل عن المباني الكبيرة والشاهقة ومن الذي يملكها وفى أي مجال تعمل، وكانت البداية بأفريقيا الاستوائية حيث كان الرعايا الأجانب من الدول الاستعمارية يرغبون في تصفية ممتلكاتهم بالدول الإفريقية المحتلة، استعدادًا للعودة إلى أوطانهم، وذلك عن طريق بيعها بشرط قبض الثمن في أوروبا، حيث كان من غير المضمون بالنسبة لهم الخروج بأي أموال من الدول الإفريقية المستقلة حديثًا، فاستغلت شركة النصر هذه الفرصة لشراء الأراضي والعقارات التي أصبحت فيما بعد مقار للشركة في قلب أفريقيا.
ويروي غانم في أحد حواراته الصحفية عن ذلك قائلا:" وفى أحد الأيام كنت أتحدث مع وزير الاقتصاد حسن عباس زكى وطلبت منه أن يساعدني في فتح أفرع للشركة في أفريقيا فرحب، وسألني عن التكلفة، فقلت نحتاج ٢٥٠ ألف دولار لكل فرع. ففزع وقال لي الميزانية لا تسمح، ولكن سأمنحك ٥٠ ألف دولار. ورضيت وذهبت إلى عبد الحفيظ فودة مدير النقد لأتسلم المال ففوجئت به يقول لي: «من أين لي؟ لن أمنحك سوى ١٠ آلاف دولار فقط مصر بحاجة للعملة الصعبة لشراء السلاح.
وكان هذا هو التحدي، أن أفتتح أفرعًا للشركة بتلك الميزانية الضئيلة، ولكن كان هناك ١٢٠رجلًا من العاملين في تلك الفروع امتلكوا العزيمة والوطنية لتحقيق المستحيل وتوطيد أقدام مصر في أفريقيا، وطلبت منهم أن يتصرفوا ويتاجروا بمنطق الفلاح عندما يبيع المحصول ويكون لديه التزامات، فيوزع ما لديه عليها بحكمة.
وطلبت من كل منهم أن يكون مقر الشركة في دولة كل منهم في أعلى مبنى وفى أفضل منطقة وأن يُبنى على أحدث الطرز. فقالوا لي من أين؟ فاتفقت مع حسن عباس زكى على فتح حساب بنكي للشركة في البنك الأهلي فرع بيروت نحول له كل ما تكسبه الشركة استعداداً لبناء تلك المباني وليكون معنا عملة صعبة في أي وقت تحتاج لها مصر.
كان الرجال يعملون ٤٨ ساعة في اليوم ليرفعوا رصيد الشركة، مصر كانت فوق رؤوسهم. لم يكن الواحد منهم يحصل على راتبه، ولكن كان هناك هدف يعرفون قيمته. وكان مبنى الشركة في النيجر هو الأعلى على الإطلاق حيث إن المباني لا ترتفع على طابقين بأي حال من الأحوال، ولذا كان بناء مقر الشركة هناك حدثًا حضر افتتاحه رئيس الجمهورية الذي استأذنني في أن أسمح له بأن يصعد ويرى البناء ويجرب المصاعد والحمامات فرحبت. وكذلك كان الأمر في ساحل العاج، وعمارة أبيدجان كان مساحتها ٤٦٠٠ متر مربع ومكونة من ٤ أدوار فوقها برج مكون من ١٧ دوراً، على الطابق الأخير لافتة الشركة يراها أهل البلد والوافدون لها.
بدأت الشركة بثلاثة فروع تم افتتاحها في دول غانا وغينيا ونيجيريا، حتى تساند وتثبّت حركات التحرُّر الاستعمارية، وفى كل دولة تحصل على الاستقلال، كانت الشركة تؤسس فرعًا جديدًا لنفسها بمنشآت ضخمة تجذب انتباه المواطنين، لدرجة أن هذه المباني أصبحت بعد فترة من المعالم الرئيسية لعواصم بعض الدول الإفريقية، وأصبحت هذه الفروع تسهل مهام جميع الهيئات والمؤسسات المصرية التي تريد العمل في أفريقيا، حيث أدخلت شركة «المقاولون العرب» للاستثمار في دول كثيرة، وشكّلت دعمًا قويًا لها".
وأصبح لشركة النصر للتصدير والاستيراد ٢٥ فرعا في أفريقيا وأوروبا والبلاد العربية بعد ست سنوات فقط من تأميمها، وفى السنة السابعة أصبح لشركة النصر أسطولًا للنقل البحري بحمولة ٢١٥ ألف طن، وحسب رواية في أحد الحوارات الصحفية لعارف عبد القادر زكى، الذي كان يعمل مستشارًا لقطاع الفروع الخارجية التابعة لشركة «النصر» والتصدير، ويحفظ جميع فروع الشركة عن ظهر قلب، كما يعلم عن أفريقيا الكثير، لأنه تولى رئاسة عدة فروع في الدول الأفريقية خلال عمله على مدار الأربعة عقود الماضية. يتذكر «عارف» جيداً سنوات الازدهار التي شاهدها في بداية الشركة، منذ أن التحق بها في عام ١٩٦٩م، بعد تخرجه في كلية الزراعة، يقول: «كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ذكياً في التعامل مع الدول الأفريقية، كان يتعامل معهم بمبدأ تجارى «eat now.. pay later».. بمعنى أنه كان يعطى للدول الأفريقية الغذاء والاحتياجات التي يطلبونها، ولا ينتظر منهم أن يسددوا سريعاً، وفى بعض الأحيان كان الرئيس يطلب إعدام الديون التي كانت على بعض الدول الأفريقية». يقول «عارف» عن قوة الشركة في عهد «عبدالناصر»: «كانت الشركة تمتلك ٥ مراكب تخدم غرب وشرق أفريقيا، كانت تحمل منتجاتنا المصرية إلى أعماق أفريقيا، كانت المراكب تحمل منتجات من شركة إدفينا والمحلة والأسمنت والحديد وإطارات السيارات والبطاريات، والكثير من المنتجات الأخرى، وكانت تعود المراكب إلى مصر بالمواد الخام لتستخدمها في الصناعة، كالأخشاب والكاكاو والبن والشاي، لأن هذه الدول لم تكن تستطيع تصنيع هذه المواد، ولم يتوقف نشاط الشركة على الدور الاقتصادي فقط، بل لعب دوراً سياسياً واجتماعياً، وكانت الشركة سبباً في الدعم السياسي لمصر في الدول التي كانت موجودة فيها، وأسهمت في إتمام بع٠ض المهام السياسية التي كانت تكلّف بها».
وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي أصبحت الشركة حسب تقدير جامعة ألينوي الأمريكية واحدة من أهم ٦٠٠ شركة علي مستوي العالم، وقد وصل عدد العاملين فيها إلي ٣٥٠٠ موظف، وقد اعتبرها بنك «أوف أمريكا» الشهير أنها بالنسبة لدول حوض البحر المتوسط بمثابة شركة ميتسويشي العملاقة في الحجم والقوة الائتمانية بالنسبة لليابان.
لا يمكن حصر إنجازات شركة النصر للتصدير والاستيراد في مجرد كلمات أو سطور أو صفحات، حيث كان هناك الكثير من العمليات الناجحة التي استطاعت من خلالها النفاذ عبر النسيج الإفريقي من خلال دراسة متأنية للأوضاع هناك فمع حصول زامبيا على استقلالها عقب سنوات من الاحتلال كان هناك شركتان من إنجلترا تحصلان على النحاس مقابل ٦٠٠ جنيه إسترليني للطن، على اعتبار أن هذا هو سعره العادل في ذلك التوقيت في الوقت الذى كان يباع في بورصة لندن مقابل ٨٠٠ جنيه إسترليني وهنا تحرك محمد غانم ليقنع أصحاب الأرض بضرورة الحصول على النحاس وأن لديه سعرا تفضيليا أكبر مما تدفعه الشركتان وحينها دفع ٧٠٠ جنيه إسترليني واستطاع الحصول على صفقة كبيرة من وراء هذا التحرك في الوقت الذى كانت تبسط فيه إنجلترا نفوذها على أغلب الدول الإفريقية في الوقت الذى كانت مصر تدعم علاقاتها مع زامبيا ورئيسها الجديد كينيس كاوندا من خلال دعم حركات الاستقلال والتحرر هناك.
وفى نيجيريا نجحت شركة النصر في إقناع المسئولين هناك بإمكانية صناعة الزيت على أراضيهم وتصديره للخارج في الوقت الذي كانت تحتكر فيه بريطانيا هذه التجارة، وبعد فترة من الشد والجذب والإقناع نجحت مصر في تصدير الزيوت من نيجيريا إلى فرنسا، وهنا خرجت الصحف في البلاد لتؤكد أنها بالفعل تستطيع الدخول في الصناعة واعترفت بالدور المصري وقتها.
أما في مجال التصدير فقد كان للأرز المصري حكاية خاصة في شركة النصر للتصدير والاستيراد، حيث ضغط جمال سالم وزير التخطيط وقتها على محمد غانم من أجل تصدير الأرز إلى إفريقيا ولأن الأرز المصري له طبيعة خاصة، حيث يحتاج إلى طريقة معينة في النضج إذا ما خالفها الطهاة تغير قوامه وشكله فكان طبيعيا، فلجأ رئيس الشركة إلى مساعديه واستطاع التواصل مع برامج التليفزيون وقتها وشرح كيفية طهى الأرز المصري اللذيذ بسهولة وبعدها جرى تصديره في الكثير من دول القارة.
ورغم أن الطابع السياسي لمصر وقتها كان الانفتاح على إفريقيا فإن الأمر لم يكن سهلا بالمرة فوجود الكثير من الدول العظمى في القارة السمراء فضلا عن دخول إسرائيل اللعبة مبكرا جعل من الصعب الحصول على بعض الراحة في العمل داخل شركة النصر للتصدير والاستيراد وكانت العاصمة الغانية أكرا محلا للصراع «المصري الإسرائيلي» في المجال التجاري و كانت بلدية أكرا تملك حق إيجار لافتة كبيرة للغاية في ميدان يصل إليه مئات الآلاف من الغانيين يوميا وبالتالي كان فرصة ذهبية للدعاية وقد عرضت مصر وقتها الحصول على اللافتة وفى الوقت نفسه تنافست شركة ديزنكوف الإسرائيلية للحصول عليها وفى ظل الصراع المالي الشديد بين الطرفين حسم الرئيس الغاني نكروما الصراع ومنح اللافتة لمصر استغلالا لعلاقته الجيدة بالرئيس المصري جمال عبدالناصر وهو ما يمثل ثقل مصر وقوتها وقدرتها على احتواء الأفارقة.
أفرع الشركة
الداخلية: (الإسكندرية، بورسعيد، السويس، دراو، أبوسمبل، دمياط الجديدة).
الخارجية: (فرنسا، سوريا، الكويت، السودان، الأردن، نيجيريا، غانا، زامبيا، كينيا، تنزانيا، زيمبابوي، أوغندا، ساحل العاج، أفريقيا الوسطي، جمهورية الكونغو، النيجر، بنين، توجو، السنغال، الكاميرون، بوروندي).
وتمتلك الشركة العديد من العقارات في بعض الدول الإفريقية منها:
- عمارة النصر في أبيدجان، ساحل العاج، ترتفع ١٦ طابقاً، وتضم ٥٠ شقة وخمس فيلات ومكاتب تجارية.
- عمارة النصر في نيامي، النيجر، ترتفع ١١ طابقا وتعتبر أعلي مبنى في عاصمة النيجر.
- مبني بنك إكزيم في دار السلام، تنزانيا.
- مبني إداري مؤجر للشركات. عدد ٢ فيلا في زامبيا مؤجرة للغير.
- فيلا في كينيا مؤجرة للغير.
- شقتين في الكونغو كينشاسا ملك الشركة مؤجرة للغير.
مخازن ومناطق حرة منها:
- مخزن في ابيدجان.
- مخازن في بانجي، جمهورية أفريقيا الوسطي مؤجرة للغير.
المصادر
موقع شركة النصر للتصدير والاستيراد.
مقال تحت عنوان:"النصر للتصدير والاستيراد.. حصان طروادة الإفريقى"، محمد عبدالعاطي.
مقال تحت عنوان: "محمد غانم.. الرجل الذى فتح القارة السمراء بشركة النصر للاستيراد والتصدير: مصالحنا فى أفريقيا لا تقتصر على المياه فقط.. والوقت لم يفُت لإصلاح أخطائنا"، نشوي الحوفي.