عبد الرحمن الأبنودي .. الشاعر الذى تَمَنَّى لو أمكنه المزاوجة بين الجنسيتين المصرية والسودانية

"حيًا أو ميتًا أنا عبد الرحمن الأبنودي، عِشت حياتي طفلًا، أحببت هذا الوطن والناس متنسونيش ولا عايز أتلف في علم ولا ملاية، عايز أرحل من بره بره كده، رسالته الأخيرة إلى المصريين قبل وفاته".
ولد عبد الرحمن محمود الأبنودي عام ١٩٣٩م، بقرية أبنود إحدى قري محافظة قنا في صعيد مصر لأب كان يعمل مدرسا للغة العربية، رعي عبد الرحمن الغنم في طفولته. واصل الأبنودي دراسته الابتدائية حتى المرحلة الثانوية التي درس بعضها في مدينة قنا حيث استقر مع والده وأمه فاطمة قنديل، التي يقول عنها "إن العلاقة بيني وبين أمي تخترق أشعاري جميعا جيئة وذهابا، وهي ملهمتي ومعلمي الأول التي أرضعتني الأشعار والطقوس والأغنيات والتراث".
ويصف الأبنودي هذه المرحلة من حياته بأنها كانت بداية انطلاقته القوية نحو الشعر وتأليف الأغاني، خاصة أنه كان يقطن بشارع بني على؛ حيث استمع إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها، وصارت فيما بعد من أهم اعماله.
انتقل الأبنودي إلى القاهرة فدرس في قسم اللغة العربية ضمن كلية الآداب في جامعة القاهرة، وحاز الشهادة الجامعية. اطلع الأبنودي خلال فترة الدراسة على عيون الشعر العربي قديمًا وحديثًا، وأعجب بعدد من الشعراء وعلى رأسهم أبو العلاء المعري.
بدأت علاقة الأبنودي بالأدب مع "سيرة" بني هلال، التي تجلى شغفه بها في قيامه بتجميعها بعد أن تلقاها من ألسنة الشعراء.
وفي العام ١٩٥٦م، تعرف الأبنودي على رفيقه وابن مدينته الشاعر أمل دنقل، وأقاما سويا فترة يسكنان داخل "عوّامة" كتب فيها أوائل أغانيه الناجحة، مثل "تحت الشجر يا وهيبة" (غناها محمد رشدي)، و"بالسلامة يا حبيبي بالسلامة" (غنتها نجاح سلام). لم يفلح الشاعر الجنوبي الشاب -وفق ما رُوي عنه- في الوصول إلى كبار المطربين أو الملحنين، الذين لم يبدوا اكتراثا بهذا الشاب النحيل الذي يتحدث لهجة جنوبية صعبة الفهم على آذانهم.
بيد أن هؤلاء ما لبثوا أن راحوا يفتشون عنه في المقاهي وملتقيات الأدباء، بعد أن نشر له الشاعر صلاح چاهين أولى قصائده في مجلة "صباح الخير"، وغنى له المطرب الشعبي الشاب محمد رشدي أغنية "تحت الشجر يا وهيبة" التي حققت رواجا كبيرا في وقتها، كما غنت له الفنانات فايزة أحمد ونجاة وشادية.
وفي العام ١٩٦٤م، صدر أول الدواوين الشعرية التي ألفها الأبنودي هو ديوان "الأرض والعيال"، وبعد نجاح أغنية "عدوية" التي كتبها الأبنودي ولحنها رشدي وغناها الفنان محمد منير، شكل الأولان ثنائيا لفت أنظار الجميع، وهو ما دفع الملحن بليغ حمدي والمطرب عبد الحليم حافظ والذي تعرف عليه عام ١٩٦٥م، وكتب له نحو ٣١ أغنية لاستقطابه؛ فشكلوا فريقا قدم كثيرا من الأغنيات العاطفية والوطنية، وفي العقود الثلاثة الأخيرة من حياته شكل الأبنودي "ثنائيا مميزا" مع الفنان محمد منير.
اعتقل الأبنودي أشهرا خلال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ورغم هذا الخلاف ذهب لتمجيده بعد موته، وقد لخص أسباب هذا التمجيد في جملته الشعرية: "قلبت في كل الوشوش مالقيتش زيه".
وفي العام ١٩٦٧م، صدر ديوانه الثاني "الزحمة"، وتبعه ديوانا "عماليات" عام ١٩٦٨م، و"جوابات حراجي القط" في العام التالي.
وأكمل الأبنودي خلال السبعينيات مسيرة إبداعه الشعري، فألف عدة دواوين شعرية نذكر منها ما يلي: "الفصول" عام ١٩٧٠م، و"أنا والناس" عام ١٩٧٣م، وديوانا "بعد التحية والسلام" و"صمت الجرس" عام ١٩٧٥م، و"المشروع الممنوع" عام ١٩٧٩م وغيرها.
ولم يكن الأبنودي على وفاق مع الرئيس أنور السادات، ودفعه موقفه من السادات للانضمام إلى حزب التجمع اليساري، ولاسيما بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام ١٩٧٨م. وقد هجاه ببضع قصائد نذكر منها: "المد والجزر"، و"لا شك أنك مجنون".
وفي فترة الثمانينيات، حقق الأبنودي أشهر إنجازاته عندما تمكن من إصدار السيرة الهلالية في خمسة أجزاء، والتي جميع فيها أشعار شعراء الصعيد وقصصهم عن بني هلال. وبعدها نشر الأبنودي ديوانا "الاستعمار العربي" عام ١٩٩١م، والجزء الأول من مختاراته الشعرية عام ١٩٩٤م.
أيضًا، نشر الأبنودي كتاب "أيامنا الحلوة"، وهو مجموعة من القصص التي نشرها تباعًا في ملحق جريدة الأهرام، ويسرد فيها حكايات مختلفة عن قريته في الصعيد.
لم تشغل كتابةُ الأغاني الأبنوديَّ عن القصيدة السياسية التي كانت مبتدأه ومنتهاه، فكتب مئات القصائد خاصة في فلسطين وأطفالها ومقاوميها، فرثى ناجي العلي، وحاكى قمر يافا، ودعم أطفال الحجارة، وكانت أشهر قصائده في هذا المضمار "الموت على الأسفلت".
وكانت مدينة "السويس" من أهم المحطات في حياة "الخال"، حيث مَثل تاريخها النضالي محطة من أهم المحطات الابداعية والانسانية في مسيرة الأبنودي الشاعر والإنسان.. وكانت أغنية " يا بيوت السويس " من أجمل واقوى أغانيه التي ولدت من رحم الهزيمة وجعلت النصر طوق ياسمين، وكلماتها تقول :
يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى
استشهد تحتك وتعيش انتي
يا بيوت السويس
استشهد والله وف ايدى أكفانى
فداكى وفدا اهلى وبنيانى
وعلى الرغم من بساطة كلماته وسلاستها إلا انها كانت تحتضن فلسفة عميقة ونفاذ عجيب يصيب بالقشعريرة، فبدا الموت وكأنه ضيفاً خفيف الظل لا يتوجب تحاشيه أو التنكر له، عندما قال:
أوعى تصدقها الدنيا
غش فغش
اذا جاك الموت يا ولدى
موت على طول
اللى اتخطفوا فضلوا أحباب
صاحيين في القلب
كأن محدش غاب
وفي العام ٢٠٠١م، حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية.
لم تقتصر مساهمات عبد الرحمن الأبنودي على مجال الشعر قط، بل ألف مجموعة من الأغنيات المشهورة التي ترنم بها مطربو مصر والوطن العربي غنت كلماته مجموعة من أشهر المطربين آنذاك، كما ذكرنا سابقا، بالإضافة لكتابته أغاني العديد من المسلسلات والأفلام التلفزيونية مثل مسلسلي (النديم - ذئاب الجبل) وفيلمي (شيء من الخوف- البريء)، فكانت الأغاني لا تقل ثراءً عن سيناريو وحوار هذه الأعمال، بل كانت قاعدة أساسية يرتكز عليها بنيان النسيج الدرامي للأحداث، كما شارك في كتابة الحوار لفيلمي (شيء من الخوف -الطوق والأسورة)، فبدا الحوار مُتقناً ومطابقاً لما تضمنه من محاكاة واقعية لبيئة الأحداث.
أيد الأبنودي ثورة الخامس والعشرين من يناير العام ٢٠١١م، التي أسقطت الرئيس حسني مبارك، وكتب قصيدته "الميدان" التي افتتحها بقوله "آن الآوان ترحلي يا دولة العواجيز". كما أيد ثورة الثلاثين من يونيو العام ٢٠١٣م.
وحصل الأبنودي على "جائزة محمود درويش للإبداع العربي" لعام ٢٠١٤.
تمنى الأبنودي لو أمكنه المزاوجة بين الجنسيتين المصرية والسودانية ليحمل كليهما. وكأنه نصف القلب ونصف الروح ونصف الهوية، فلم تراوده الأماني بامتلاك جنسية أخرى بعد جنسيته المصرية سوى تلك السودانية ...!!
وتمتع بشعبية جارفة لدى الشعب السوداني الذي اعتبره كما القيمة المجردة التي لا تحمل تحقيق شخصية، لكنها تمتلك هوية فضفاضة تستوعب كافة الأوجاع، فلطالما عكست أعماله الأدبية وأشعاره واقعاً يعيشه العرب كافة، كما كان لإبداعاته شذى خاص يلف ويجوب الثقافة الجنوبية، نظراً لما حملته من اقتراب وثيق وملامسة حقيقية لطبيعة الحياة داخل تلك المجتمعات وما تحفل به من عادات وتقاليد.
لم يكن عبد الرحمن الأبنودي واحدا من أشهر شعراء العامية المصرية فحسب، بل وُصف بأنه "رائد" المناضلين لإخراج القصيدة الدارجة من قالبها الزجلي القديم إلى القالب الحر، وبأنه نجح في "إبهار المدينة بلهجة القرية وتراثها".
ويعد "الخال" - كما يسميه شعراء مصر ومثقفوها- واحدا ممن تخطت شهرتهم حدود بلدانهم، فتغنى بقصائده المثقفون والعوام في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، خاصة أنه عُني بقضايا أمته، ونكأ جراحها التاريخية لتظل حية في مواجهة محاولات إماتتها أو تسكينها، ولا سيما "جرح فلسطين".
يكشف الأبنودي عن منهجه الأدبي والفني قائلا: "لقد فصلت تماما في حياتي الأدبية بين كوني شاعرا أكتب بالعامية معبرا عن قضايا وطني، وبين صناعتي في كتابة الأغنية، لقد كنت أكتب الأغنية كي أعيش بما أحصل عليه عبرها من أموال".
وترك الأبنودي أكثر من ٢٢ ديوانا، أشهرها "السيرة الهلالية"، و"جوابات حراجي القط"، و"وجوه على الشط"، و"الموت على الأسفلت"، و"الأحزان العادية"، وكانت أشهر شخصياته "العمة يامنة".
وأضاف: "إنني بالفعل لست شاعر أغنية، ولكني شاعر يكتب الأغنيات..، لقد رأيت أن كتابتي للأغنية هي سبيلي للإنفاق على رحلتي الأدبية ورحلة الشعر والعامية".
وفي الواحد والعشرين من أبريل العام ٢٠١٥م، توفي عبد الرحمن الأبنودي عن عمر ناهز الـ٧٧ بعد صراع مع المرض، وتم تشيعه في جنازة عسكرية مهيبة. وقبيل وفاته قال مخاطبا الشعب المصري: "أنت أكبر من عانى ولم ينصفك أحد حتى الآن، لكن أهم شيء أن نحافظ على مصر".
وراحت السودان تفضي بعشقها المماثل للخال عندما رثته من صميم قلبها، حيث أقام الإتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين تأبيناً للشاعر الراحل تقديراً لمكانته الأدبية وتبجيلاً لقيمته الإبداعية التي لم تكن تختلف عن مكانة الشاعر السوداني "محمد الفيتوري" الذي وافته المنية بعد أيام قلائل من رحيل" الخال"، وكأن رحيلهما المتزامن يترك أفريقيا الجميلة "مكلومة "، فخسارتها مضاعفة بفقد أثنين من أهم وأبرز وأصدق شعراء القارة السمراء.
نعم.. رحل كنز الصعيد الثمين.. صاحب الحضور التلقائي والثراء البكر والإلقاء اليقظ.. رحل " الأبنودي.. تميمة الثورات المصرية " عن عالمنا تاركاً ذلك الفراغ القاسي باعتباره (أيقونة) غير قابلة للتكرار، فكان استثناءً بكل المقاييس
هذا وقد أقامت دار الأوبرا المصرية احتفالية فنية كبيرة بعنوان " وداعاً يا خال" إحتفاءً بتاريخ وقيمة الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي والذي أحيتها الفرقة القومية العربية للموسيقى وتضمنت أشهر الأغاني التي كتبها على مدار مشواره الفني الطويل ... كما حملت الدورة الـ ٢٤ لمهرجان الموسيقى العربية اسم (الأبنودي) إهداءً إلى روحه وتقديرًا لمشواره الإبداعي الطويل في حب الوطن.
كما أقام المعهد العالي للفنون المسرحية احتفالية تحمل عنوان "ليلة في حب الأبنودي" التي شارك فيها عدد من طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية وقاموا بإلقاء عدد من أشعاره التي تم اختيارها من مجمل أعماله.
فضلاً عن حفل تأبين إقامته نقابة الصحفيين للشاعر الكبير نظراً لاقتصار العزاء على ذلك الذي أقيم في مدينة الإسماعيلية إلتزاماً بوصيته بعدم إقامة مراسم عزاء له في القاهرة وسرعة دفنه.
وتقديرًا لمسيرة الشاعر الكبيرة في ترسيخ قيم الإبداع المتمثلة في فنون شتى: شعر العامية، والنقد، وجمع التراث الشفاهي، وأغانِ تغنى بها أشهر مطربي الوطن العربي؛ أقامت مكتبة الإسكندرية مسابقة تحمل اسمه "عبد الرحمن الأبنودي لشعر العامية والدراسات النقدية".
المصادر
موقع مكتبة الإسكندرية.
موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية.