إنه طريق الحرية نمضى فيه جنباً إلى جنب

الأخ العزيز الرئيس هوارى بومدين..
أيها الإخوة والأصدقاء:
حين أستمع والملايين معى من أبناء شعبنا إلى تحيتكم له، وإلى مشاعركم التى تكشفون عنها فى صدق الأخ وإخلاصه، لا يملك الواحد منا - وقلبه ينبض بالوفاء والتقدير - إلا أن يستوعب فى خاطره - فى ومضة واحدة - كل هذا التاريخ الطويل الذى ربطت أحداثه بين شعب الجمهورية العربية المتحدة وشعب الجزائر، وأكملت برباط النضال ملامح الأخوة الأصيلة بينهما، فكأن الدماء التى تجرى فى عروق الملايين الذين التقيت بهم من بورسعيد إلى أسوان، هى نفس الدماء التى تجرى فى عروق إخوتهم فى الجزائر؛ من قمم الجبال فى الأوراس إلى بطون الوديان فى وهران.
ولقد مرت سريعة تلك الأيام التى قضيتها بيننا، والتى استغرقت أغلبها فى زيارتك التى حاولت فيها أن تلتقى بأبناء هذا الشعب وهم فى مواقع العمل من أجل معركة البناء التى تشد اهتمامهم وآمالهم، والتى يتعلق عليها أملهم فى تحقيق التطور الاشتراكى الكبير. ولئن كنا قد استطعنا أن نخصص جانباً من وقتك للأحاديث الطويلة التى دارت بيننا، إلا أننى أشعر أن لقاءاتك بأبناء هذا الشعب كانت متممة لتلك الأحاديث؛ لأنه هناك وعلى الطبيعة وفى مواقع العمل يحدد الشعب ببساطة ملامح الطريق الذى نخطو فيه، ولست أشك لحظة واحدة أن الطريق الذى اختاره شعب الجمهورية العربية المتحدة ليسير فيه هو نفس الطريق الذى اختاره شعب الجزائر ليكون فيه مساره.
إنه طريق الحرية؛ نمضى فيه جنباً إلى جنب، ونحث الخطى فى عزم وإصرار، وإن كنا نعلم أن هذا الطريق طريق طويل؛ ذلك لأن الحرية إنما تمثل بجانب الحرية السياسية الحرية الاجتماعية. ولقد كانت كل أمانى شعبنا قبل الثورة أن نتخلص من الاستعمار البريطانى، وأن نقضى على الملكية المتعاونة مع الاستعمار، وقامت الثورة يوم ٢٣ يوليو سنة ٥٢، وانتهى عهد الاحتلال البريطانى، وانتهت الملكية وأعلنت الجمهورية، واسترد الشعب المصرى قناة السويس من استغلال الرأسمالية العالمية، واستطاع أن يهزم العدوان الثلاثى سنة ١٩٥٦. ولم يكن هذا كله إلا بداية الطريق.. طريق الحرية.. الحرية الاجتماعية، وتسابقت الخطى وتتابعت، كل خطوة نخطوها لا تترك لنا الفرصة ريثما نلتقط أنفاسنا، وإنما تفرض علينا خطى جديدة؛ ذلك أن مفاهيم الحرية قد اتسعت أبعادها أمام مدارك هذا الشعب، لم تعد الحرية مجرد صراع ضد الاحتلال داخل الوطن الصغير، وإنما الحرية هى صراع ضد الاستعمار فى العالم الكبير، لا يستطيع شعب أن يعيش آمناً مطمئناً وهناك قوى ضارية تخطط كل يوم من أجل توسيع مناطق نفوذها، ولم تعد الحرية مجرد حرية الشعب ككل وإنما أصبحت أيضاً حرية للفرد نفسه داخل نطاق هذا الشعب، تحرره من كل ما يشده إلى الوراء، تحرره من الاستغلال، من الإقطاع ومن سيطرة رأس المال، وأصبحت الحرية هى الاشتراكية، الكفاية والعدل.
الأخ العزيز:
إن الاستعمار لم يعد يتحرك فى صورته القديمة البالية؛ وإنما أصبحت له أساليب جديدة يتخفى وراءها، هو يتخفى وراء الرجعية التى تجد فى بقائه استمراراً لحياتها، وهو يتخفى وراء الصهيونية التى وثبت إلى حكم فلسطين لتهدد الوطن العربى، وهو يتخفى وراء التفرقة العنصرية التى وثبت إلى حكم روديسيا وجنوب إفريقيا تهدد العالم الإفريقى المتحرر، وهو يتخفى وراء الضغوط الاقتصادية، وراء السيطرة على الأسواق العالمية، وراء التقدم العلمى الواسع؛ الذى يخلق البون الشاسع بينه وبين سائر الشعوب، فيضعها دائماً فى مكان المحتاج إليه، وإذا بالصراع ضد هذا كله يخلق مفاهيم جديدة استوعبتها شعوبنا التى تبصر الطريق، وتحمل ما يخصها من عبء المسار فيه.
لقد قلت لك - أيها الأخ - من قبل إن زيارتك قد جاءت فى الوقت الأمثل، ولهذا أقول إن محادثاتنا قد حققت الغاية المثلى؛ ذلك أن هذه المحادثات لم يستغرقها تفهم الواقع من أمورنا، فالواقع واحد ومعروف، ولم يستغرقها توحيد مفاهيمنا وأفكارنا وأهدافنا، فأفكارنا دائماً واحدة، ومفاهيمنا واحدة من أجل الهدف الواحد، ولكن بحث احتمالات المستقبل كان أهم ما دار بيننا، وليس من شك أن هناك تربصات جديدة على طريق نمونا. إن تحالف الاستعمار والرجعية لن يقبل بالسكوت وهو يرى بناء الاشتراكية يرتفع فوق أرض الجمهورية العربية المتحدة وفوق أرض الجزائر، وعلى مناطق أخرى من العالم العربى، ونحن أيضاً لم نقبل بالسكوت على تحركات حلف الاستعمار والرجعية.
أيها الأخ والصديق العزيز:
إنكم إذ ترجعون غداً إلى الشعب الشقيق فى الجزائر، فإنى أحملكم إليه كل ما تملكه النفس من مشاعر الود والإخاء والمحبة؛ منى ومن الشعب المصرى، هذا الشعب الذى يرى فيكم أخاً مجاهداً، وبطلاً ورسولاً لشعب ضرب المثل والقدوة فى الكفاح، فى الشجاعة، فى الاستبسال، فى التضحية؛ حتى أصبح القياس الذى بلغه بعيداً عن منال كثير من الشعوب غيره، مع كل ما وفرته لها الظروف من إمكانيات.
ولنقف جميعاً تحية إلى الصديق والأخ العزيز الرئيس هوارى بومدين.. تحية إلى الوفد الممتاز المصاحب له، ولنقف جميعاً تحية للعلاقة الخاصة ما بين الثورة المصرية والثورة الجزائرية بما استطاعت أن تؤديه من دور حاسم وفعال فى تاريخ الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى مأدبة عشاء تكريماً للرئيس هوارى بومدين.