رجال حول الرئيس عبد الناصر(٣).. الدكتور محمود فوزي سندباد الدبلوماسية المصرية
ولد محمود فوزي دسوقي جوهري في ١٨ سبتمبر ١٩٠٠م، في شبرا بخوم بقويسنا المنوفية، ومن الطريف أن الأب أراد أن يسميه محمود وأرادت الأم أن تسميه فوزي، واتفقا على أن يكون الاسم ثنائياً "محمود فوزي". كان والده "دسوقي" شيخ أزهري من الرعيل الأول لمدرسة القضاء الشرعي، التحق محمد بالمدرسة الابتدائية فالثانوية، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وتخرج منها عام ١٩٢٣م، استكمل تعليمه حيث درس العلوم السياسية والتاريخ في جامعات ليفربول وكولومبيا وروما فحصل على شهادة دكتوراه من روما أثناء عمله هناك بالسلك الدبلوماسي تلميذ قنصلي "كاتباً" في القنصلية المصرية عام ١٩٢٤م، ثم حصل على الدكتوراه في القانون الدولي من جامعة كولومبيا الأمريكية.
وعقب عودته للقاهرة استقال محمود فوزي من وزارة الخارجية عام ١٩٢٦م، وعين معاوناً للنيابة بوزارة العدل في العام نفسه، ثم مساعداً للنيابة. عاد فوزي للسلك الدبلوماسي مرة أخرى بوزارة الخارجية، ليتنقل "عميد الدبلوماسية المصرية" كما يطلق عليه، من بلد لأخرى فشغل منصب نائب قنصل في القنصلية المصرية بنيويورك، ثم بنيو أورليانز في الفترة (١٩٢٧- ١٩٢٩م)، ثم مأمورا للقنصلية المصرية بكوبي باليابان وبعد مرور ستة أعوام رقي محمود فوزي إلى درجة قنصل عام ١٩٣٦م، وخلال هذه الفترة أجاد اللغة اليابانية، وفن الرسم، والمصارعة اليابانية، ثم انتقل إلى أثينا بدرجة سكرتيراً ثان، ثم قنصلاً عاماً في ليفربول بإنجلترا في الفترة (١٩٣٦-١٩٣٧م).
اختير محمود فوزي مساعداً لمدير القسم السياسي بوزارة الخارجية بالقاهرة خلال الفترة (١٩٣٩-١٩٤١م)، ثم عين قنصلاً عاماً لمصر بالقدس في مارس عام ١٩٤١م، وفي ديسمبر من نفس العام أصبح سكرتيراً بالمفوضية المصرية بباريس، ثم انتقل سكرتيراً أول بالمفوضية المصرية بفيشي (١٩٤١-١٩٤٢م)، ثم عاد إلى مصر.
ليُعين بالمفوضية المصرية بلشبونة، ثم عاد مرة أخرى قنصلاً عاماً لمصر بالقدس، وأصبحت اختصاصاته تشمل جميع أنحاء فلسطين وشرق الأردن (١٩٤٣-١٩٤٤م).
وعقب عودته للقاهرة ألحق بدرجة قائم بالأعمال بوزارة الخارجية (١٩٤٤-١٩٤٥م)، ثم عين مستشاراً بالمفوضية المصرية بواشنطن في يناير عام ١٩٤٥م.
رُشٍح وزيراً مفوضاً لمصر في أديس أبابا في مارس عام ١٩٤٦م، وفي نهاية العام أصبح مندوباً لمصر في الأمم المتحدة أثناء وزارة إسماعيل صدقي الثالثة في العام نفسه. وفي نهاية العام التالي عرضت القضية المصرية على مجلس الأمن أثناء حكومة محمود فهمي النقراشي الثانية.
تم اختياره كمندوب لدى مجلس الأمن، حتى استدعاه علي ماهر رئيس وزراء مصر في فبراير ١٩٥٢م، بعد أن أفل نجم حكومة الوفد، ليكون مستشاراً لوزارة الخارجية المصرية أثناء إجراء المفاوضات المصرية- الإنجليزية، توصلاً لاتفاق بين الطرفين، ولم تساعد الظروف دكتور محمود فوزي للوصول لغرضه بسبب تعاقب الوزارات واحتدام الخلافات السياسية.
وبعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، كانت التحديات التي تواجه مصر في الداخل لا تقل في حدتها عن تلك التي تنتظرها مع العالم الخارجي، فكان اختيار مجلس قيادة الثورة محمود فوزي صاحب المسيرة الحافلة من الإنجازات والمعارك الدبلوماسية، وزيرا لخارجية جمهورية مصر العربية، بعد أربعة أشهر وتحديدا في ديسمبر من العام ذاته.
مارس الدكتور محمود فوزي دوراً سياسياً هاماً واستمر في هذا المنصب لستة عشر عاما، قام خلالها بعدة مهام، ولقد كان وجها مشرفا لمصر في الخارج والداخل بسبب حكمته في اتخاذ القرارات. حيث لعب محمود فوزي دورا بارزا في فضح العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م، وأجرى الوزير فوزي زيارة إلى نيويورك في الثالث أكتوبر من العام نفسه ليتولى تمثيل مصر بنفسه في مناقشات مجلس الأمن الدولي، وحرص على إجراء مشاورات مع وزير خارجية يوغسلافيا الأسبق بوبوفيتش الذي كان يقدم النصائح الصادقة لمصر ويدعمها في معركتها ضد العدوان الثلاثي.
وقاد "فوزي" مشاورات مع وزير خارجية يوغسلافيا آنذاك في ٤ أكتوبر ١٩٥٦م، وتم الاتفاق على الخطوط العريضة للأزمة سواء من ناحية المبدأ أو الأسلوب، وكانت يوغسلافيا كانت أبرز الدول التي تقدم لمصر النصيحة الصادقة، وكان لديها من الخبرة في مجال السياسة الدولية أكثر مما لدي القيادة المصرية آنذاك؛ وكانت القاهرة في حاجة ماسة إلى مثل هذا الصوت العاقل غير المنحاز إلى أي أطراف دولية.
نجحت جهود وزير خارجية مصر الأسبق في حشد مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي واستنكر المجلس فكرة اللجوء إلى القوة، واقترحت مصر عقد اجتماع في جنيف وتركت تحديد موعده لكل من فرنسا وبريطانيا لبحث وقف العدوان الثلاثي، واتفقت مصر مع يوغسلافيا على الخطة الدبلوماسية التي ستعمل عليها القاهرة وتقدمت مصر باقتراح لتشكيل لجنة للمفاوضات مكونة من ٨ أو ٩ دول، وأرسل الوزير محمود فوزي برقية إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يخبره بأنه لن يذكر اللجنة في بيانه؛ لأنه لو فعل ذلك فلن يحظى إلا بدعم دولتين فقط هما يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي.
وتؤكد برقية الوزير محمود فوزي مدى الدعم الكبير الذي قدمته يوغسلافيا لمصر خلال العدوان ومدى حرص الجانب المصري على التنسيق مع يوغسلافيا في التحركات الدبلوماسية التي قادتها القاهرة للتنديد بالعدوان والتحرك لوقفه، ولعب وزير خارجية مصر الأسبق دورا كبيرا في عملية التنسيق والاتصال المستمر مع يوغسلافيا.
وعقب تأميم مصر لقناة السويس، أكد الــدكتور محمــود فــوزي منــدوب مــصر فــي الأمــم المتحدة بأن مصر لم تحضر مؤتمر لندن بسبب التهديد والوعيد الذي سبقه؛ فلقـد كـان عقد المؤتمر إنذارا لا دعوة. وقال: "لم نكن مـدعوين لحـضور مـؤتمر، بـل كنـا مطلـوبين للمحكمة".
ونجحت مصر في حشد جهود بعض الدول الإقليمية والدولية حتى أن الرئيس اليوغسلافي تيتو قد أعـرب عـن دهـشته بـسبب عـدم دعوتـه لحـضور مـؤتمر لنـدن، معربا عــن أســفه للتهديــد باســتعمال القــوة ضـد مــصر.
وبينما كانت النقاشات دائرة في أروقة الأمم المتحدة حول أزمة السويس المتصاعدة، فوجئ العالم ببدء العدوان الإسرائيلي على مصر فى مساء الإثنين ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م، وأعلنت بريطانيا أنها لن تعمل على استغلال العدوان، ولكن في مساء اليوم التالي ٣٠ أكتوبر قدمت حكومتا بريطانيا وفرنسا إنذارا نهائيا لمصر تطالبان فيه باحتلال قناة السويس طوعا أو كرها وسحب القوات المصرية ٢٠٠ كم غرب حدود مصر الشرقية وبذلك تكشفت خيوط المؤامرة العدوانية البريطانية الفرنسية الإسرائيلية.
وأخذت بريطانيا وفرنسا قبل هجومهما من البر والبحر تشنان على مصر حرب الغارات الجوية؛ فأغارت الطائرات البريطانية على القاهرة منذ مساء الأربعاء ٣١ أكتوبر، وفى مساء هذا اليوم أيضاً أكتوبر ١٩٥٦م أعلنت وزارتا الحرب في لندن وباريس بدأ عملياتهما الحربية ضد مصر.
هاجم مصر ثلاث دول تحشد معها أكثر من ١٠٠٠ طائرة وحوالي ٧٠٠ دبابة وأسطولين كبيرين وقوات برية تتفوق في العدد على القوات المصرية أربع مرات على الأقل.
وحرص وزير الخارجية آنذاك محمود فوزي على تنسيق المواقف المشتركة مع يوغسلافيا، وجاء في وثيقة من وثائق الخارجية المصرية: "ذهبت يوغوسلافيا إلى مدي بعيد رغم سياستها الحيادية بين الكتلتين وعلاقاتها بالغرب - في تأييد مصر ضد العدوان. وكان طبيعيا أن تؤيد يوغوسلافيا - حكومة وشعبا- مصر في موقفها بعد العدوان عليها.. وهو مثال لاتحاد وجهات النظر ووحدة المصالح بين البلدين."
ولعبت الدبلوماسية المصرية بقيادة الوزير محمود فوزي دورا كبيرا بالتعاون مع يوغسلافيا في اجتماع الجمعيــة العامــة للأمــم المتحــدة في الأول من نــوفمبر لبحــث العدوان الثلاثي على مصر بعد أن فشل مجلس الأمـن في وقـف العـدوان؛ وتـصف وثيقـة الخارجيـة موقـف يوغـسلافيا إبـان انعقـاد الجمعيـة العامـة قائلـة: "وكـان موقـف يوغـسلافيا خـلال انعقـاد الجمعيـة العامـة تأييـد مـصر علـي طـول الخـــط".
وأصـــدرت الجمعيـــة العامـــة لهيئـــة الأمـــم المتحـــدة يـــوم ٢نـــوفمبر عام ١٩٥٦م، القرار الآتي "وقف إطلاق النار فورا، انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي المــصرية وانــسحاب القــوات المــصرية والإســرائيلية إلــى مــا وراء خطــوط الهدنــة، ومنــع الـدول الأعـضاء في هيئـة الأمـم المتحـدة مـن إرسـال عتـاد حربـى إلـى الـشرق الأوسـط، واسـتئناف الملاحـة في قنـاة الـسويس وضـمان سـلامتها، وقـد جـاء هـذا القـرار انتـصارا للدبلوماسية المصرية التي لعبت دورا كبيرا في الترويج للموقف المصري العادل تجاه العدوان الثلاثي الغاشم.
ساهم الوزير محمود فوزي بشكل كبير على المستوى السياسي في مفاوضات جلاء القوات البريطانية عن مصر خلال توليه منصب وزير الخارجية، ساهم أيضا في وضع مبادئ حركة عدم الانحياز وفي تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وكان له جولات دبلوماسية في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وأيضا زيارات خارجية لتوطيد علاقات مصر بالدول الأجنبية، لا سيما بلدان التحولات السياسية آنذاك ومن أبرزها زيارته لكوبا عام ١٩٥٩م، عندما كان وزيرا لخارجية الجمهورية العربية المتحدة، واستقبال الزعيم الشهير إرنستو جيفارا له في العاصمة هافانا.
وشهدت تلك الفترة علاقات قوية بين الرئيس جمال عبد الناصر وثوار كوبا بقيادة جيفارا وفيديل كاسترو وذلك قبل زيارة "جيفارا" الشهيرة لمصر في شهر يونيو من العام ١٩٥٩م.
وتأسست حركة عدم الانحياز من الدول التي حضرت مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥م، وكان عدد الدول التي كانت نواة لتأسيس الحركة ٢٩ دولة، وتعتبر الحركة نتيجة مباشرة للحرب الباردة بين المعسكرين (الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تضم حلف الناتو) و(المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي الذي يضم حلف وارسو) ويعتبر مؤسسي الحركة الأوائل هم الرئيس المصري الراحل جمال عبدا لناصر ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس اليوغسلافي تيتو وأخيرا الرئيس الاندونيسي أحمد سوكارنو.
لعبت حركة عدم الانحياز دوراً مهماً في الحفاظ على السلام والأمن في العالم وكانت تهدف إلى الابتعاد عن السياسات التي نتجت عن الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي وفي سنوات الحركة الذي تجاوز الخمسين عام وصل عدد الأعضاء المنظمين للحركة إلى أكثر من ١١٦ دولة وتعتبر جهود الحركة من العوامل الأساسية التي ساهمت في القضاء على الاستعمار.
واستضافت القاهرة الاجتماع التحضيري للقمة الاولى للحركة في الفترة من ٥ الى ١٢ يونيو١٩٦١م، برئاسة الدكتور محمود فوزي وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة حضره ممثلون من ٢٢ دولة هي أغلب الدول التي شاركت في مؤتمر باندونج، عدا الصين، حيث نوقشت معايير العضوية في الحركة والدول التي يمكن توجيه الدعوات اليها للمشاركة في قمة بلجراد.
ويجب الإشارة إلى دور الوزير محمود فوزي في حمل رسالة التحذير شديدة اللهجة المكتوبة بالقلم الرصاص من البكباشي جمال عبد الناصر (الرئيس لاحقا) إلي إمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسي من بناء سد على النيل، بل كان الوزير محمود فوزي مهندس إدارة الأزمة التي انتهت لصالح مصر دون الإضرار بالآخرين.
شارك الوزير فوزي في مفاوضات جلاء القوات البريطانية ولعب دورا دبلوماسيا هاما في الضغط على الجانب البريطاني للخروج من مصر بعد احتلال دام لعقود طويلة، واستمر بمنصبه حتى ٢٤ مارس ١٩٦٤م، ومع توالى النجاحات التي حققها الوزير محمود فوزي فقد عين عقب نكسة ١٩٦٧ مساعدا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وفي يوليه عام ١٩٦٨م، اختاره الرئيس عبد الناصر رئيساً للجنة المائة. وكان عضواً في اللجنة التنفيذية للإتحاد الاشتراكي العربي (١٩٦٨-١٩٧٠م)، وأعاد تنظيمه بناءاً على أمر الرئيس جمال عبد الناصر.
مارس دكتور محمود فوزي باقتدار كبير دوره المؤثر في السياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وكان يجيد سبع لغات أجنبية (الإنجليزية- الفرنسية- الإيطالية- الإسبانية- اليابانية- اليونانية- وبعض الحبشية). فكانت له بصماته الواضحة، حتى سمى " بأبو الدبلوماسية المصرية "، كما أطلق عليه اسم آخر هو " سندباد الدبلوماسية المصرية ".
وبعد تولي الرئيس محمود أنور السادات الحكم، تولى "فوزي" رئاسة الحكومة أربع مرات متتالية خلال الفترة من ١٩٧٠م إلى ١٩٧٢م، مما حدا برئيس الوزراء البريطاني وقتها (إدوارد هيث) أن أرسل خطاباً للرئيس السادات محيياً اتخاذه قرار تعيين دكتور فوزي رئيساً للحكومة المصرية، قائلاً "لقد وضعت النوتي الماهر قائداً لسفينة تتلاطمها الأمواج". وكان للدكتور فوزي قولته المشهورة، بعد اختياره رئيسا للوزراء، "نحن لا صفة لنا إلا أننا خدام هذا الشعب، وإذا انتفى عنا ذلك لا صفة لنا". ثم أصبح مساعد الرئيس للشئون الخارجية، إلى أن تقاعد في مارس ١٩٧٣م، قلده الرئيس السادات قلادة النيل العظمى، وهي القلادة التي تمنح لرؤساء الدول، واعتزل الحياة العامة بعد ذلك لمدة ست سنوات وتسعة أشهر، إلى أن توفي يوم الجمعة الموافق ١٢يونيه عام ١٩٨١م.
من مؤلفاته:
- Suez An 1956: An Egyptian Perspective.
وقد نشر في لندن بعد وفاته، وظهرت له ترجمة عربية فيما بعد.
المصادر
موقع مكتبة الإسكندرية
جريدة الأهرام
جريدة اليوم السابع