الإذاعة المصرية .. أحد أقدم الإذاعات العالمية

الإذاعة المصرية .. أحد أقدم الإذاعات العالمية

تقوم الإذاعة بدور مشهود وملموس رغم ما تموج به الساحة من وسائل إعلامية كثيرة سواء كانت مقروءة أو مرئية، إلا أن الإذاعة تظل هي المحور الرئيسي في عالم الإعلام، فالاستماع إلى الإذاعة يُطلق لدى المتلقي طاقات الخيال والتصور ويحمله على الإنصات بتركيز أكثر إلى الكلمات والمقاطع والنغمات، ومع مجيء التكنولوجيات الجديدة وتلاقي وسائل الإعلام المختلفة، أخذت الإذاعة بالتحول والانتقال إلى منصات بث جديدة، مثل الإنترنت ذات النطاق العريض، والهواتف الخلوية والصفائح الرقمية. وتبقى الإذاعة ملائمة في العصر الرقمي بفضل الاتصال الدائم للناس عبر الحواسيب والأقمار الصناعية ووسائل التواصل المتحركة، لكونها تلعب دورا هاما في حالات الطوارئ كما أنها إحدى الوسائل الأكثر توفيقا لتوسيع الوصول إلى المعارف، وتعزيز حرية التعبير، وتشجيع الاحترام المتبادل والتفاهم ما بين الثقافات. فما زالت الإذاعة الوسيلة الإعلامية الأكثر نشاطاً والأكثر تفاعلاً مع الناس والأكثر إشراكاً للجمهور، إذ تتكيف الإذاعة مع التغيرات التي نشهدها في القرن الحادي والعشرين وتوفّر سُبلاً جديدة للتفاعل والمشاركة. وتملك الإذاعة قدرة فريدة على الجمع بين الناس وتيسير إقامة الحوار البنّاء فيما بينهم من أجل إحداث التغيير المنشود، بينما يرى البعض أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يؤدى إلى تشتت الجمهور وتشرذم الناس وحبسهم في فقاعات إعلامية مع من يشاطرونهم الآراء. وتعمل الإذاعة على إعلامنا وتغيير أحوالنا عن طريق برامجها الترفيهية والإخبارية، وكذلك البرامج الحوارية التي تُشرك فيها المستمعين.

شهدت الاذاعة تطورات متلاحقة زادتها انتشاراً عندما ظهر الترانزستور كثورة حقيقية في مجال الاتصال فأصبح جهاز استقبال الراديو رخيص الثمن وفي متناول يد الملايين، هذا التزايد والانتشار لأجهزة استقبال الراديو تأكيدا لفكرة أن الراديو هو أكثر وسائل الاتصال انتشاراً في كل وقت وفي كل مكان.

ويستمع الناس حاليا إلى محطات (AM -FM) عبر أجهزة الراديو أو الهواتف المحمولة أكثر من الاستماع إليها عبر الأقمار الصناعية (الساتلايت) أو الإنترنت. بل إنه فرض نفسه كوسيط على الهواتف المحمولة التي أصبحت أداة لبث محطات إذاعية كثيرة، تجذب عددا كبيرا من المستمعين في بلدان كثيرة.

وتعد الإذاعة المصرية التي بدأ بثها خلال عام ١٩٣٤م من أقدم الإذاعات في العالم، وتمثل أرشيفاً وتجسيداً هائلاً للتاريخ المصري الحديث ورافداً مهماً في تشكيل الوجدان المصري والعربي. ففي عشرينيات القرن الماضي، بدأت تجارب الإذاعات الأهلية في مصر، ولم يكن العام ١٩٣٤م، الظهور الأول للإذاعة في مصر، إذ عرفت البلاد في منتصف العشرينيات من القرن الماضي أولى التجارب الأهلية للإذاعة بعد ظهور أول محطة إذاعية في العالم بخمس سنوات، وكانت تلك المحطات الأهلية يملكها بعض الهواة وتعتمد في تمويلها على الإعلانات التجارية، ومن أمثلتها في ذلك الوقت محطات "راديو فاروق، وراديو فؤاد، وراديو فوزية، وراديو سابو، وكان الجزء الأكبر من المضمون الإذاعي الذي تقدمه معظم هذه المحطات ترفيهيا‏ مما دفع الجمهور الي الشكوى من بعض المضامين الإذاعية‏‏ حتى صدر المرسوم الملكي في بداية مايو ١٩٢٦م يحدد شروط استخراج تراخيص الأجهزة اللاسلكية، طبقا للاتفاقيات الدولية، وبدأت هذه المحطات الأهلية تذيع بالعديد من اللغات؛ كاللغة العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية. وتم التعاقد مع شركة مركونى على إنشاء الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، وقضى العقد المبرم بين الجانبين أن تكون الحكومة هي المحتكرة للإذاعة وأن الشركة موكلة من الحكومة في إدارتها وإنشاء برامجها لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد وأنه في مقابل الإدارة تتلقى الشركة حصة من حصيلة رخص أجهزة الاستقبال قدرها ستون في المائة، وإنشاء لجنه عليا للإشراف على البرامج تتكون من خمسة أعضاء ثلاثة منهم تعينهم الحكومة وعضوان تعينهما الشركة وكان أول رئيس لهذه اللجنة العليا والجراح المصري الشهير وعميد كلية الطب وقتها ورئيس الجامعة المصرية لاحقا الدكتور على باشا إبراهيم، وكان العضو الثاني في اللجنة وحافظ عفيفي باشا والعضو الثالث حسن فهمى رفعت باشا.

و في ٣١ من مايو العام ١٩٣٤م بدأ بث الإذاعة واستمر إرسال اليوم الأول لمدة ست ساعات، وكانت أول الأسماء التي شاركت بهذا اليوم أم كلثوم وعبدالوهاب والشاعر على الجارم وصالح عبد الحى والمونولوجست محمد عبدالقدوس والموسيقيان مدحت عاصم وسامى الشوا وفى الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة مساء انطلق صوت المذيع أحمد سالم مفتتحا البث الإذاعي وهو يقول هنا القاهرة سيداتي وسادتي أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم، وكان القارئ الشيخ محمد رفعت هو صاحب التلاوة الأولى في هذه الإذاعة الوليدة «الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية» ومع أحمد سالم، كان من أوائل المذيعين محمد فتحي الذي عرف بلقب كروان الإذاعة، ثم انتهى عقد شركه ماركونى مع الحكومة المصرية في ٣٠من مايو ١٩٤٤م.

وفي الحادي عشر من فبراير العام ١٩٤٧م، تم تمصير الإذاعة، وبدأت ملامح التمصير تظهر حيث عدل الأسبوع الإذاعي ليبدأ يوم السبت من كل أسبوع‏،وحل المصريون محل الأجانب .‏ نقلت تبعية الإذاعة المصرية من رئاسة مجلس الوزراء‏‏ إلى وزارة الارشاد القومي في١٠‏ نوفمبر‏١٩٥٢م.‏ وفي‏١٥‏ فبراير١٩٥٨م‏ صدر القرار الجمهوري رقم‏١٨٣‏ لسنة ‏١٩٥٨م‏ باعتبار الإذاعة المصرية مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية وإلحاقها برئاسة الجمهورية‏، وأصبحت عام‏١٩٦١م‏ من المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي وسميت‏ المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون‏‏ وفي عام‏١٩٦٢م،‏ تم ضمها الي وزارة الإرشاد القومي وصدر عام‏١٩٧١‏م القرار الجمهوري رقم‏١‏ لسنة‏١٩٧١‏ بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون‏،

و شهدت الفترة من ١٩٥٣م إلي ١٩٥٧م تطورا‏ حيث زادت ساعات الإرسال وأصبحت برامج الإذاعة بأربع وثلاثين لغة‏‏ وأنشئت اذاعة صوت العرب‏، اذاعة الاسكندرية الإقليمية، البرنامج الثاني، اذاعة الشعب، إذاعة فلسطين،‏ اذاعة الشرق الأوسط‏،‏ اذاعة القرآن الكريم‏، البرنامج الموسيقي‏، واذاعة الشباب‏، بالإضافة الي الاذاعات الموجهة .

في ابريل‏١٩٨١م‏ تم تطبيق نظام الشبكات الإذاعية‏،‏ بالإضافة الي وجود الاذاعات المصرية علي القمر المصري النايل سات‏١٠١،‏ والنايل سات‏١٠٢‏ وبدأ البث الرسمي للشبكات الاذاعية‏:‏ البرنامج العام‏، صوت العرب‏،‏ الشرق الأوسط‏، وسبع اذاعات موجهة من خلال أول قمر صناعي اذاعي‏(‏ افريستار‏)‏ اعتبارا من٣٠‏ أكتوبر‏١٩٩٩م،‏ كذلك امتداد ارسال بعض الشبكات الاذاعية علي مدي أربع وعشرين ساعة‏‏ حتى لا يصمت صوت الاذاعة المصرية‏ ولو للحظة واحدة خاصة مع وجود أحداث عالمية وعربية تهم المستمع المصري والعربي‏ ويرغب في متابعة تطوراتها من خلال الإعلام المصري‏.‏ وفى  الفترة من ١٩٨١م إلي ١٩٩٣م تم الاهتمام بالإذاعات الإقليمية‏‏ وبتوظيف الإعلام لخدمة التنمية حيث بدأت شبكة المحليات وتضم عشر اذاعات هي القاهرة الكبري‏ ، وسط الدلتا، شمال الصعيد‏،‏ شمال سيناء)،‏ جنوب سيناء،‏ القناة‏، الوادي الجديد‏، مطروح‏، واذاعة جنوب الصعيد‏ ‏كذلك مواكبة العصر وبدء الاذاعات المتخصصة والإذاعات الجديدة مثل : نجوم اف ام، إذاعة الأغاني، إذاعة نايل أف أم ، الإذاعة التعليمية، راديو مصر، إذاعة الأخبار والموسيقى، إذاعة نغم FM.

تضم مكتبة الإذاعة المصرية تسجيلات نادرة لقادة وزعماء ونجوم كما تضم توثيقاً لأحداث مصرية وعربية مهمة على كافة المستويات بينها وثائق صوتية حول معاهدة ١٩٣٦م بين الحكومة المصرية والإمبراطورية البريطانية.. “من أجل مصر وقعت معاهدة ١٩٦٣م ومن أجل مصر أعلن اليوم إلغاء المعاهدة".. عبارة شهيرة جاءت علي لسان الزعيم مصطفي النحاس يوم ٨ أكتوبر ١٩٥١م عبر الإذاعة المصرية وكان خطاباً تاريخياً انضم إلي تراث الإذاعة مع خطابات أخري غيرت مصير المحروسة سياسياً ليكون من أوائل سلسلة المواقف التاريخية التي مرت علي الإذاعة"، كذلك تفاصيل حفل تولي الملك فاروق حكم مصر حيث ألقى الملك فاروق أولى خطبه عبر الإذاعة المصرية في ٨ مايو ١٩٦٣م من قصر القبة و بيان ثورة يوليو ١٩٥٢م الأول بصوت البكباشي أنور السادات وتجاوبت الجماهير مع البيان وتوالت برقيات التأييد الفردية والجماعية علي الإذاعة فلقد عرفت الثورة منذ اللحظة الأولي أهمية الإذاعة في تعبئة الرأي العام‏، حيث قدمت خلال شهر واحد من قيام الثورة‏ ٥١ حديثا وطنيا‏‏ و‏٣٥‏ برنامجا خاصا‏‏ و‏١٧تمثيلية اذاعية وطنية‏ و‏٣٧‏ قصيدة شعرية وزجلية تؤيد الثورة وتشرح أهدافها‏ .‏ وبيان الرئيس جمال عبدالناصر بمبني الشريفين يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٦١م  ضد أنهاء الوحدة المصرية السورية ، كذلك إذاعة خطاب تنحي الرئيس عبدالناصر في ٩ يونيو ١٩٦٧م عن الحكم وأعلن خلاله تحمله المسئولية .

كما بثت الإذاعة المصرية البيانات العسكرية وانتصارات الجيش المصري في حرب السادس من أكتوبر العام ١٩٧٣م. وفي الحادي عشر من فبراير من العام ٢٠١١م بثت الإذاعة خطاب تنحي الرئيس محمد حسني مبارك بصوت اللواء عمر سليمان، لتكون الإذاعة المصرية بذلك شاهداً على الكثير من أهم الأحداث.

وشهدت خمسينيات القرن العشرين حركات تحرر شملت معظم البلاد الإفريقية، وكانت السياسة المصرية في تلك الفترة تلتزم بمناصرة ودعم حركات التحرر عامة، وحركات التحرر العربية والأفريقية خاصة. ولعبت الإذاعة المصرية في تلك الفترة دوراً بالغ الأهمية، فأنشأت مصر العام ١٩٥٣م عدداً من الإذاعات الموجهة إلى البلاد الأفريقية باللغتين الإنجليزية والفرنسية، فضلاً عن اللغات المحلية الأفريقية مثل الهوسا والفولاني والسواحلي، وتوافدت قيادات المقاومة الأفريقية على القاهرة لتتمكن من توجيه قوات المقاومة عبر أثير إذاعات القاهرة بعيداً عن بطش قوات الاحتلال، وتحولت استديوهات الإذاعات الموجهة في القاهرة إلى ما يشبه غرفة عمليات لقيادة المقاومة ضد قوات الاحتلال الأجنبية.

ولم يقتصر دور الإذاعات الموجهة على دعم المقاومة، فامتد إلى المساهمة في دعم العلاقات الأفريقية والعربية، على أساس يضمن تقارباً استراتيجياً على المستوي الشعبي، واعتمدت خطة القاهرة في هذا المجال على تقديم برنامج لتعليم الشعوب الإفريقية اللغة العربية عن طريق الإذاعات الموجهة، وبالفعل تم إعداد مناهج لهذا الغرض بالاشتراك مع اليونسكو، وأصبح برنامج تعليم العربية بالراديو أحد أهم علامات النشاط الإذاعي إفريقياً.

فالإذاعة المصرية إذاعة وطنية ورائدة في المنطقة كلها، ظلت منارة تثقيفية وتنويرية منذ نشأتها عام ١٩٣٤م حتى الآن. وقامت بدور وطني وقدمت عمالقة الفكر والنجوم في كافة المجالات وكانت صوتا للشعب المصري وساهمت في معالجة قضاياه ومشاكله وعبرت عن آماله وطموحاته، فقد استطاعت الإذاعة منذ البث الأول أن ترتقي بالذوق العام وأن تكون مصدرا قويا للمعلومات وأن تصل إلى الجمهور على أوسع نطاق. وفي عصر التقنيات الحديثة لا تزال أداة اتصال ووسيلة إعلام قوية ومؤثرة.