كمال الملاخ «خوفو القرن العشرين»

كمال الملاخ «خوفو القرن العشرين»


ولد كمال وليم يونان الملاخ في السادس والعشرين من أكتوبر عام ١٩١٨ م، في الشهور الأخيرة التي سبقت ثورة ١٩١٩، بمحافظة أسيوط، وحصل على شهادة البكالوريا ثم التحق (بمدرسة الفن) كلية الفنون الجميلة، قسم عمارة، وتخرج منها عام ١٩٣٤م، ثم التحق بكلية الضباط الاحتياط وتخرج منها أيضا، ليعمل كضابط احتياطا بسلاح المهندسين.

التحق الملاخ بمعهد الدراسات العليا للآثار بكلية الآداب جامعة القاهرة، وحصل على ماجستير معهد الدراسات المصرية، ثم انتقل للتدريس بكلية الفنون الجميلة ومعهد السينما والجامعة الأمريكية بالقاهرة.

عمل الملاخ في البداية في مصلحة الآثار المصرية (منطقة الأهرامات) حتى أصبح مدير أعمال بالآثار ورئيساً لقسم الهندسة بهيئة الآثار المصرية ؛ حيث شارك في ترميم أبو الهول والأهرامات عام ١٩٤٩م، و في‏ الخامس والعشرين من مايو عام ١٩٥٤م،‏ اكتشف كمال الملاخ أهم الاكتشافات الفريدة من آثار الملك "خوفو" صاحب الهرم الأكبر هي مراكبه والتي ذاعت شهرتها على أنها "مراكب الشمس"، وتعرض الآن بمتحف ملحق بمنطقة أهرامات الجيزة، وموجود حتى الآن خمسة أماكن لمراكب الشمس ثلاثة منها تقع إلى الشرق من الهرم الأكبر، وقد نزعت منها مراكبها الخشبية.

كما تم العثور على موضعين جديدين لمركبتين كبيرتين منحوتتين في الصخر إلى جنوب الهرم الأكبر، وهذا الاكتشاف عبارة عن ألواح كثيرة لمراكب خشبية يبلغ طولها نحو ٤٣ متراً، وأكبر عرض لها ستة أمتار، وهي مفككة الأجزاء يسهل تجميعها مع بعضها، ووضعت معها مجاديفها وحبالها، وغير ذلك.

أعطى كمال الملاخ بدء الإشارة لإعادة نفس ترتيب وترقيم وتركيب هذه القطع الخشبية القديمة التي وُجدت في حفرتين بجوار الهرم الأكبر على يده ليرى العالم كله في النهاية ما كانت عليه (مراكب الشمس منذ ما يقرب من ٥٠٠٠ عام) وقد كان فراعنة مصر واضعين علامات بين الأجزاء المتشابهة والتي تتداخل مع بعضها البعض، ومن العجيب أن جميع الأجزاء لا يربطها مسماراً، ولكنها تتداخل مع بعضها البعض وتربط بالحبال الموجودة. كما عمل على ترميم آثار جزيرة فيله بأسوان وكشف عن حمام سباحة يوناني قديم في الأشمونين ورمم هيكله، وأيضا شارك في أعمال ترميم قلعة برج العرب، وعمليات إعادة إعمار وترميم معابد الكرنك بالأقصر. لذا أطلق عليه الكاتب مصطفى أمين لقب «خوفو القرن العشرين «.

بدأ الملاخ حياته الصحفية رسامًا ثم ناقدًا فنيًا في جريدة الأهرام عام ١٩٥٠م، وكان الرسام الأساسي لجريدة أخبار اليوم ومجلة آخر ساعة والأخبار والجيل الجديد، ثم رئيساً للقسم الفني بجريدة الأهرام اليومية، ثم نائباً لرئيس التحرير ‏حتى إحالته للتقاعد. ‏كما عمل أستاذاً زائراً في كلية الآثار جامعة القاهرة، وكلية الفنون الجميلة والمعهد العالي للسينما.

يقول الكاتب عبدالوهاب مطاوع عن الملاخ : «سنوات طويلة وأنا أرى كمال الملاخ في ردهات مبنى الأهرام، وأتهيب الاقتراب منه فلقد كنا ونحن طلبة في قسم الصحافة بكلية الآداب ندرس صفحته الأخيرة في الأهرام كصيحة جديدة في عالم الصحافة، ونستعيد أسلوبه الرشيق ولغته المبتكرة الصحفية واختصاراته المشهورة لأسماء الأعلام والمشاهير التي صارت بعده من التقاليد الصحفية، وعناوينه المميزة التي كان يكتبها بريشته قبل أن يزحف التطور ويفرض على الصحف الاستغناء عن الخطوط، وكان ذلك جديدا على الصحافة في وقتها، وعلى الأهرام المحافظة العتيدة بوجه خاص».

وفى وصف تجربته الصحفية، كتب أحمد بهاء الدين «كان كمال الملاخ «توليفة» صحفية لم يسبق لها مثيل ولم يلحق بها شبيه، ولم تكن صفحته صفحة أدب ولا صفحة فن ولا صفحة مجتمع، ولكنها «صفحة» كمال الملاخ، هكذا كان يسميها القارئ، وهكذا كنا نسميها نحن أبناء المهنة، وهكذا كان تفرده بلون ذى مزيج خاص به من «خط العنوان» إلى آخر سطر في الصفحة.».

وقال عنه الأديب إحسان عبدالقدوس في إهداء «إلى الإنسان الذى جعل من الصفحة الأخيرة صفحة أولى»، وكتبت الكاتبة آمال بكير عن رفيقها في عمودها «برواز»، فحكت: «أعرفه منذ ثلاثين عاما عندما التحقت للعمل في جريدة الأهرام وكانت الصفحة الأخيرة التي أسسها الراحل الكبير كمال الملاخ في بداياتها ولعبت الصدفة دورها في أن أنقل من القسم القضائي الذى بدأت العمل فيه إلى الصفحة الأخيرة، كنا أول مجموعة تعمل مع الصحفي الكبير قريبين منه. تعلمنا منه، وخلال هذه السنين الطويلة لمست فيه حبا للصحافة ولم يطغ على هذا الحب إلا عشقه لآثارنا القديمة».

أسس كمال الملاخ الجمعية المصرية للكُتَّاب ونقاد السينما عام ١٩٧٣م، والتي أسست مهرجان القاهرة السينمائي وانطلقت فعالياته الأولى بعد حرب أكتوبر بثلاث سنوات، وبالتحديد في السادس عشر من أغسطس عام ١٩٧٦م، وأداره لمدة سبع سنوات حتى عام ١٩٨٣م، كما أسس مهرجان الإسكندرية للأفلام، وفي عام ١٩٨١م أسس الملاخ مهرجان أسوان للسينما الأفريقية.

وحين أسس الملاخ مهرجان القاهرة السينمائي وضع جوائز بإسم الفراعين العظام، مثل جائزة أفضل ممثلة.. تمثال (نصفي) الأميرة باكت آتون، جائزة أفضل ممثل، تمثال الملك أمنحتب الثالث، جائزة أفضل مخرج تمثال الملك أخناتون، جائزة أفضل سيناريو. وهو تمثال الكاتب المصري.

كان الملاخ عضوا بالمجلس الأعلى لهيئة الآثار المصرية، عضواً في الجمعية الأمريكية للعلماء المستقلين، وممثلا لمصر في هيئة اليونسكو لإنقاذ آثار فيله بأسوان. وعضوا لمجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وعضوا بلجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب حتى إلغائه، وعضوا بلجنة تحكيم مهرجان مؤسسة السينما، وعضوا باللجنة الاستشارية العليا لتجميل القاهرة وتخطيطها، وعضوا بكل من نقابة الصحفيين، ونقابة المهندسين ونقابة الفنانين التشكيليين.

وكتب كمال الملاخ العديد من الكتب ومنها الفني والتاريخي، وترجمت لغات عدة أهمها: `توت عنخ آمون بالألمانية، والانجليزية، والفرنسية، وحضارة على ضفاف النيل وكنوز توت غنخ آمون وصدر له: حول الفن الحديث، المليونير الصعلوك، بيكاسو، كما كتب موسوعة عن تاريخ مصر الفرعوني، وكتب المادة العلمية لثمانية عشر فيلما ثقافياً قصيراً عن حضارة الماضي. ونشر العديد من الأبحاث والدراسات والمقالات في الدوريات العربية والعالمية. وكان اسمه وتوقيعه الشهير من العلامات المميزة للصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام لسنوات طويلة.

حصل الملاخ على العديد من الجوائز منها:

  • شهادة التقدير من أكاديمية الفنون بالهرم لجهوده في مجال الإبداع الفني في عيد الفن والثقافة ١٩٧٨م.
  • جائزة الدولة التشجيعية وحامل وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
  • حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام ١٩٨٣م.
  • حامل لوسام الأرز اللبناني من درجة كوماندور.
  • حامل وسام الاستحقاق الفرنسي.

التقى كمال الملاخ عميد الأدب العربي طه حسين مرتين، كان لهما أكبر الأثر في حياته، فوفقا لعالم الآثار زاهي حواس كان اللقاء الأول كما رواه في مقاله الذى نُشر في الأهرام في الخانس عشر من مارس العام ٢٠٠٣م، تحت عنوان «كمال الملاخ..حكايات وذكريات» عندما كان الملاخ طالباً في كلية الفنون الجميلة، واشترك في معرض مع اثنين من كبار الفنانين وهما الفنان كامل التلمساني ، والشاعر جان موسكايتللى، وقرر ابن أسيوط أن يدعو طه حسين للحضور، ورغم دعوته له كان الملاخ يستبعد حضور الأديب الكبير، ولكنه فوجئ بدخول طه حسين المعرض ملبيا دعوة الفنان الصغير المغمور، ووسط دهشة الحاضرين طاف الملاخ بطه حسين أرجاء المعرض يشرح ويصف له لوحاته بدقة. أما اللقاء الثاني فيرويه الكاتب أنيس منصور في عموده «مواقف» بعدد الأهرام ١٩ نوفمبر ٢٠٠٣م، فكتب «وذات يوم جاءته مكالمة تليفونية تفيد بضرورة مقابلة دكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف، فقال له طه حسين: سمعت عنك الكثير وأنك موهوب وبالنسبة لعمرك نابغة وأطلب منك أن تتجه إلى الآثار، فقال كمال الملاخ: مالي أنا والآثار، فلقد عقدت العزم على أن أكون أستاذا للعمارة والفن، فقال دكتور طه: وهل الآثار إلا عمارة وفناً، ثم قدم له نصيحة ذهبية: تعود أن ترى في مستقبل الأيام من يفتح لك طاقة نور، أريد أن «أمصر» جو الآثار ولا أتركه إلى الأجانب، أنت أولى بحضارة بلدك، حاول كمال الملاخ أن يراوغ دكتور طه فقال له: لكنى لم أدرس الآثار، فأجاب دكتور طه: تدرسها بعد الظهر في معهد الآثار بالجامعة، انى منتظر منك الكثير، وبعد ثلاثة أشهر قال كمال الملاخ للدكتور طه حسين: لا عودة إلى العمارة والفن، لقد اخترت طريقي مع حضارة ببلدي سأظل مع عمالقة الزمان».

في حدود الساعة العاشرة من مساء يوم التاسع والعشرين من أكتوبر عام ١٩٨٧م، وبعد عودته من الإسكندرية إلى القاهرة عقب إلقائه محاضرة بجامعتها عن الآثار المصرية وأهميتها العالمية، شعر بإرهاق شديد جعله يستغيث بابنة شقيقه، الأستاذة أليس الملاخ، الصحفية «بالأهرام»، ولكنه لم يكتب لاستغاثته أن تكتمل، وسقط مغشيا عليه بجوار الهاتف، هرعت أليس الملاخ إلى بيته بالزمالك، وقام الجيران بكسر باب المنزل، ولكن الكاتب الكبير كمال الملاخ كان قد فارق الحياة عن عمر ناهز ٦٩ عاما، نجح خلالها في تسجيل اسمه بحروف من نور في سجلات الكبار من أبناء مصر، وبعد مسيرة مليئة بالإنجاز الثقافي، والأدبي، والفني، والتاريخي.

«أحسست بآلامه الكبيرة وانكسار قلبه عندما تجاهلوه تماما عند محاولة الكشف عن مركب الشمس الثانية، وهو مكتشف الأولى»، كانت هذه شهادة الكاتب صلاح جلال حول الملاخ في عدد الأهرام الصادر بتاريخ ٣١ أكتوبر١٩٨٧م، وأكمل الكاتب صلاح منتصر مشهد انكسار الملاخ في عموده «مجرد رأى» في اليوم التالي الموافق ١ نوفمبر، موضحا: «والذى شاهد كمال الملاخ في أيامه الأخيرة كان يصعب عليه منظره بالحقيبة السوداء التي يمسك بها وهو يطوف بها حاملا داخلها مختلف الوثائق التي تؤكد انه هو الذى اكتشف مراكب الشمس، ومن بين هذه الوثائق دفتر يومية سجل فيه الملاخ يوما بيوم كل التفاصيل الفنية والهندسية التي مرت به خلال فترة عمله إلى أن جاء اليوم الموعود ٢٦ مايو ١٩٥٤م، وهو اليوم الذى تم فيه لأول مرة في التاريخ كشف مركب خوفو، وعندما اكتشف كمال الملاخ الحفرة الشرقية التي تم العثور فيها على هذا المركب كان متأكدا أن هناك مركبا آخر موجودا في الحفرة الغربية، ولهذا فإن الملاخ عندما كان يتحدث عن كشفه كان يشير إليه دوما باسم «مراكب» الشمس دون أن يقول «مركب» الشمس، وأخيرا وبعد نحو ٢٣سنة تحقق ما كان يقوله الملاخ، اذ أكدت بعثة أمريكية وجود مركب شمس ثاني في الحفرة الغربية، وقال الملاخ هذا كشفي، لكنهم في هيئة الآثار أعلنوا تجريده من كل شيء، من الكشف القديم والحديث، ومع ذلك فإنه عندما مات لم تجد الصحف عنوانا تشير به إلى موته غير: مات مكتشف مراكب الشمس».

ويروى الدكتور زاهي حواس في مقاله الذى سبق أن أشرنا إليه اليوم الذى وُلد فيه اكتشاف الملاخ، فيقول «ويروى الكاتب أنيس منصور أنه كان يجلس يتناول الغداء مع صديقه الملاخ وموريس جندي مراسل وكالة United Press في مطعم «الاكسلسيور» بالتحرير، واتصل الريس «جرس ينى» الريس الفني للعمال بالملاخ ليخبره عن الكشف، وعلى الفور استقلوا جميعا السيارة متجهين إلى منطقة الهرم، ووقف الملاخ بجوار الحفرة وكان معه مرآة فشاهد من خلالها ما هو موجود داخل الحفرة من أخشاب متراصة فوق بعضها البعض، وهنا قال كمال الملاخ، إنه كشف مراكب الشمس، واستطاع حمدي فؤاد الذى كان يعمل المحرر الدبلوماسي لجريدة الأهرام آنذاك أن يرسل خبر الكشف إلى «كينث لف» مراسل New York Times في مصر وانقلبت الدنيا كلها، وسافر الملاخ إلى أمريكا للحديث عن هذا الكشف».

وعن هذه الرحلة كتب حمدي فؤاد في عدد الأهرام في السابع من نوفمبر عام ١٩٨٧م، حول كيفية استقبال الشعب الأمريكي للملاخ فيقول «شاركت الملاخ ومراسل جريدة نيويورك تايمز في القاهرة وهو يرسل أخبار مراكب الشمس التي احتلت الصفحة الأولى في الجريدة ٢٧ يوما، وهو رقم قياسي في تاريخ الصحافة، وحصل الملاخ على جائزة تبرع بها، ودعوة لزيارة أمريكا، وكانت أمريكا قد أطلقت اسمه على نجم، تكريما له وذلك قبل وفاته بنحو أربعة أعوام.

وعلى الرغم من احتفاء الخارج بكمال الملاخ واكتشافه، فإن الحال في مصر لم يكن كذلك، فوفقا لما ذكره زاهي حواس في مقاله وروايته عن مكالمة تليفونية بينه وبين الملاخ قبل رحيله بيومين، فإن كمال الملاخ اشتكى له بألم وحسرة عن مشروع علمي سوف يشرف عليه الدكتور فاروق الباز بالتعاون مع الجمعية الجغرافية للكشف عن حفرة المركب الثانية، وبأنه تم تشكيل فريق عمل من المصريين والأجانب، بدون مشاركة الملاخ وقال «الملاخ أحس أن المركب أو ابنه سوف يبعد عنه وأنه لم يعد ملكا له».

 

ولم يقف رثاء الملاخ عند أصدقائه فقط، وإنما تخطاه لمنظمات عالمية مثل منظمة اليونسكو، في عدد الأهرام بتاريخ السابع من نوفمبر جاء خبر بعنوان «اليونسكو يعزى الأهرام في وفاة كمال الملاخ»، وورد فيه أن رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الأهرام إبراهيم نافع تلقى برقية تعزية من أحمد مختار أمبو، رئيس منظمة اليونسكو حينذاك، وأشاد فيها بدور الراحل الكبير في أداء رسالة اليونسكو نحو الإنسانية.

المصادر

جريدة الأهرام المصرية.

موقع الهيئة العامة للإستعلامات.