بينهما ما صنع الحداد والنجار والطيان

بينهما ما صنع الحداد والنجار والطيان
بقلم/ هاني نديم
قطبا (الكلاسيكو الاستعماري القديم) في لقاء اليوم. هذا بعض ما جاء عن تلك العلاقة المربكة في كتابي "فهرست ابن النديم":
 الدولتان قامتا ببلع الجيران ومكتسباتهم الثقافية. لقد فعلت فرنسا ببلجيكا كما فعلت أنجلترا بإيرلندا، أخذت ما طفى من قشدةٍ وتركت كل الرواسب، فقد سرقت فرنسا من بلجيكا لارا فابيان وجاك بريل والبطاطا المقلية التي لم تكن يوماً فرينش فرايز بل وحتى أنها استحلت واستحلّت تان تان!
أنجلترا بدورها سرقت من إيرلندا ييتس وأوسكار وايلد وجوناثان سويفت وجيمس جويس وصمويل بيكت، بل وحتى جورج برنارد شو!
 تذكرت اليمين الأوروبي والفلاسفة الجدد وصيحات الخوف التي تعالت من ازدياد العرق العربي والأفريقي في فرنسا، هذه الدوامة التي لن تعرف فيها من يجب أن يكره من وما إن كانت بيضتها قبل دجاجتها، كرهٌ متبادل وعنفٌ متبادل ومشاكل لا أظنها ستنتهي أبداً. فرنسا التي تعرّف نفسها بأنها البلد الأكثر تحرراً والأعظم قانوناً، وهي كذلك، عاث بها اليوم التطرّف من كل صوب، يمين ويسار، هم ونحن، نحن وهم، فرنسا المعتدّة بهويتها وثيماتها البصرية والثقافية والفكرية كتب عنها مؤخراً المتطرف ذو الأصول البولندية آلان فلنركوت كتاباً أسماه: "الهوية البائسة" وحينما فاز فريقها بكأس العالم، كتب مقالاً تهكمياً اسمه: "سود سود سود" في إشارة إلى المنتخب غير الفرنسي، المنتخب "الأضحوكة" على حد تعبيره.
 الدولتان تتنافسان على قائمة الفوبيا السيسلوجية حتى الآن، انجلوفوبيا وفرانكوفوبيا
 في تقرير لاسع للـ BBC البريطانية (وهي دائمة المناكفة للفرنسين ككل ما هو بريطاني) نشر تحت عنوان: "لماذا يجيب الفرنسيون على أي سؤال أو طلب بكلمة لا"، حيث يقول كاتب المقال: "خضت جدالاً طويلاً مع موظفة الحجز بشركة الطيران استمر لنحو ٢٠ دقيقة، إذ كنت أحاول إقناعها بتغيير موعد رحلتي -القابل للتغيير- لكن الموظفة أصرت على الرفض، وقالت مرارا: "لا، هذا مستحيل"! لكنني حافظت على هدوئي أثناء الحديث، ورحت أتخيل صورة شقتي الباريسية ذات المرايا المطلية بالذهب على طراز القرن التاسع عشر ونقوش الزهور التي تزين السقف. فقد تعلمت طيلة السنوات الـ ١٨ الماضية، أن أنظر إلى مظاهر الجمال من حولي كوسيلة للتأقلم مع الحياة في مجتمع يجيب على كل سؤال أو طلب أو اقتراح تلقائيا بالنفي القاطع؛ وعندما سألت أصدقائي وأقاربي الفرنسيين عن أسباب إكثارهم من قول كلمة "لا" دون تفكير، أجاب المدير التنفيذي البالغ من العمر ٦٠ عاماً: "لا، هذا ليس صحيحا، نحن لا نجيب دائما بالنفي"، بينما قال الآخر الذي يعمل في سلك المحاماة: "لا، قد تكون على حق، قد نجيب بالنفي، حتى في حالة الموافقة". ويفسر صاحب المقال بعد بحث استقصائي أن الثورة الكامنة في صدور الفرنسيين هي سبب ذلك الرفض على الغالب.
 تاريخ طويل من العداء بين جارتين ما زالتا حتى اليوم جيران جيرة الثعالب في قنّ دجاج. فبينهما 34 حرباً خلال ألف عامٍ بدأت مع ويليام الفاتح عام ١٠٦٦، وبعدها قامت حرب المئة عام وحرب الثلاثين سنة وحرب السبع سنوات وغيرها، ولم يصلح الأمر تحرير الإنجليز لباريس من احتلال هتلر في الحرب العالمية الثانية، بل أصبحت بيوتات الفرنسيين القذرة المليئة بالجرذان دون أن يكون فيها حمامات محل تندّر الإنجليز وسخريتهم، الأمر الذي عزاه ريشوفيل للغيرة من أن باريس بلد الموضة والعطور والأزياء بينما الإنجليز أهل الخطوط الحمراء والتحفّظ والبرود وقلة الهندام.
 منذ توقيع قانون السيادة الإنجليزي ١٥٣٤م منع منعاً باتاً "التنطّع" باللغة الفرنسية بين أبناء الطبقة الارستقراطية، ومع أطماع فرنسا الموازية لأطماع أنجلترا، وظهور نابليون الذي توغل في كل أوروبا ودمّر ما دمّر من مدن، وهدّد جميع الامبراطوريات القائمة ومنع ألمانيا من توحيد دويلاتها المتفرقة وقضم من غربها مدناً كثيرة.
 علينا أن نفرق جيداً بين الفرنسيين وفرنسا، فإن كره العالم الشعب الفرنسي لسبب أو لآخر، تظل فرنسا معشوقة الجميع بامتياز، فحتى الإنجليز يفضلونها عن بلادهم حسب الإحصاءات، وذلك لحالتها الثقافية والفنية وطعامها ونبيذها وريفها البكر عكس الريف الإنجليزي ذي الصيت والذي بدأ بالتآكل والانحسار المخيف في السنوات الأخيرة. وعلي أن أؤكد أن رغم كل ما فعله نابليون من حروب فقد ترك دستوراً له كل الفضل في الحالة المدنية لكل العالم أو على الأقل "نصفه" الذي يعمل من خلال هذا القانون المدني.
يقول نابليون: "إن فخري لا يأتي من الأربعين معركة التي كسبتها في حياتي، ذلك أن "واترلو" سوف تمحو ذكرى كثير من الانتصارات.. لكن ما سوف يحيا إلى الأبد، هو قانوني المدني".
 لكن لا. هذا ليس كل شيء في هذا الشأن. تستطيع كتابة معلّقة في حب الفرنسيين. دعوني أختم بما قاله نيتشه: "الامتياز الفرنسي هو الأعلى. ما تزال فرنسا الى اليوم مدرسة الذوق الرفيع وموطن أرهف حضارة أوروبية وأكثرها روحانية. لكن على المرء أن يعرف جيداً كيف يعثر على فرنسا الذوق، إذ أن من ينتمي إليها يختبئ جيداً في رهافته".
 أما الإنجليز يا صاحبي، ففي استطلاع أجرته الـ BBC تبيّن أن مشاعر الكراهية ضد الإنجليز تملأ العالم باستثناءات بسيطة كاليابان وهولندا اللتان لا تأبهان لشيء تقريباً، يقول الاستطلاع: على الأقل لم نتخلص من كراهية الفرنسيين والإغريق، كما يكرهنا الروس جداً، الإيطاليون يعتقدون أننا عنصريون وقبيحون، أفريقيا ترانا الغول، أفغانستان تضرب بنا المثل في الخيانة، باكستان لا يمكن لها أن تحبنا، الهند.. لن نتكلم! ولكن النسبة المخيفة هي داخل انجلترا تقول البي بي سي، إذ تبين أن ٢٣٪ من الإنجليز يكرهون الإنجليز، وتردف: هؤلاء هم من شكلوا حزب العمل الذي يكره ملكيتنا ونظامنا الطبقي وروح الدعابة لدينا وقواتنا المسلحة وشرطتنا وطقسنا وريفنا ونظام الحكم الذي ساعد إسرائيل على الظهور والتكوين، وهم من يرون أن كل حروبنا غير مبررة وأن أي معركة خضناها على الإطلاق كنا فيها على خطأ".
 داخل "بريطانيا" أنجلترا مكروهة حد الموت والعمى! فالكره الإيرلندي للإنجليز هو مضرب مثل، إذ يقول الإيرلنديون أن بريطانيا ابتلعت إيرلندا رغم أنفها وابتلعت ثقافاتها وحضارتها وخيراتها بعد حروب دامية وتجويع وحصارات لم ينسها الإيرلنديون إلى اليوم. وخاصة ما يعرف بمجاعة إيرلندا الكبرى أو مجاعة البطاطس التي قتلت مليون ونصف إيرلندي بين عامي ١٨٤٥ و١٨٤٩.
اسكتلندا بدورها تكره انجلترا لدرجة أن الاسكتلنديين يشجعون دوماً الفريق المنافس لمنتخب انجلترا في كأس العالم ويتمنون خروجه رافعين يافطات مكتوب عليها: (انجلترا.. جو هوم!) فمنذ التوحيد عام ١٧٠٧ حتى اليوم، قاوم الاسكتلنديون الابتلاع الإنجليزي، وجاهدوا من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية والشعبية، ويشهد التاريخ بين الدولتين الكثير من الحروب والثورات وحركات الانفصال التي ما زالت تطلّ برأسها حتى يومنا هذا. أما ويلز فما زالت تعاني من ابتلاع الإنجليز لثقافتها ولغتها حتى وأنهم بالنكاية لا يتكلمون الإنجليزية حينما يرون إنجليزي في ديارهم، بل يتحولون إلى الويلزية ويتجاهلونه تماماً.
 إلا أن أنكلترا أيضاَ هي بلد الأنسوكلوبيديا والبريتانيكا والمعاجم المنهجية والقواميس الرصينة والنكتة الحاضرة والتهذيب البالغ والاعتذار قبل كل كلام وبعده، وهي أيضاً بلد المليون أسطورة..
الشعب غريب الأطوار، المحب للنظام والأرتال؛ حتى وأن نكتةً تروى فيما بينهم إذ يقال أن طابوراً طويلا كان ينتظر في الشارع وراء رجلٍ هرمٍ كان – فقط - يستريح من المشي... فقال له أحدهم: ما هذا الخط؟ أجابه الهرم: وقفت اتكئ على الحائط وبدأ هؤلاء الناس يصطفون خلفي، فقال له الرجل: لماذا إذاً لا تغادر ببساطة، فأجابه الرجل المسنّ: ماذا؟ أتريد أن أفقد دوري في الطابور؟
تورطت بلغتي الركيكة ورويت نكتةً لأصدقاء إنجليز، نظر الأول للثاني ولم يضحكا، قلت له: "يارجل.. بغيضون أنتم الإنجليز.. اضحك! حلوة النكتة". قال لي: "آسف.. لو أني ختنت نفسي بسكين الزبدة كان أهون عليّ من سماع هذه النكتة... آسف مرة أخرى". قلت للآخر: هذا رأيك؟ قال لي: "آسف؛ بل أسوأ، لو فاز ليفربول على المانشستر ولم تتجرأ على ما قلت".
 توم كاسيدي، الصحافي الأمريكي قال بعد عودته من لندن: إنهم يشربون الشاي في كل وقت، كدت أنهار من ذلك. انفصال عاطفي؟ ما رأيك أن نشرب الشاي؟ احتفال؟ تعال لنشرب الشاي؟ تفكير؟ شاي، حزن؟ شاي، فقدت أحد أطرافك؟ لماذا لا نشرب الشاي ونتحدث عن هذا؟
من عجب الأغاني
خلال الحروب النابليونية، تحطمت سفينةٌ فرنسيةٌ قبالة ساحل هارتلبول الإنجليزية، ولم ينج من السفينة سوى قردٍ كان يلبس زيّ الضباط الفرنسيين، إذ كان البحارة يتسلّون مع هذا القرد وتحركاته بينهم، ولأن أهل المدينة لم يكونوا قد رأوا فرنسياً من قبل ولا قرداً، ولأن القرد لم يستطع أن يجيب على أسئلتهم واتهاماتهم، حوكم وأعدم من الأهالي في محاكمة ميدانية، تلك القصة تحولت إلى موروث شعبي وتحولت إلى أغانٍ وأمثال وأفلام كرتون وأفلام وثائقية ومسرحيات وروايات وجسدت على شكل نصب منحوتة في المدينة وغيرها، واستلهم فريق المدينة المحلي هذه القصة وما زال حتى اليوم يصور الفرنسي على تلك الشاكلة كقردٍ يلبس الملابس العسكرية.
الموسيقي والمغني "نيد كورفان" في القرن التاسع عشر غنى:
فيما مضى، في العصر القديم
كانت الحرب وكان الصراع
هدد الغزو الفرنسي الحياة
كانوا مسلحين بالسكاكين جميعاً
أووه
علق الصيادون القرد
الصيادون الشجعان ألقوا القبض على الجاسوس
شين يقول: اشنقه، فليمتً
أووه
فعلوها وعلقوه.
حاولوا لعله يتكلم
عذبوه حتى صرخ
ألين يقول: هذا فرنسي
آخر يقول: إنه يوناني
أووه
كان الصيادون سكارى
أووه
علقوا القرد الماكر