ياسر أبومعيلق يكتب: إفلاس البنوك الأمريكية وحالة الشد والجذب التي يثيرها البعض
حاااااااضر ... سأخرج من عزلتي الطوعية وأفض الاشتباك في موضوع إفلاس البنوك الأمريكية وحالة الشد والجذب التي يثيرها البعض بخصوصها. سأحاول تلخيص الموضوع والآثار بلغة تفهمها الغالبية:
* في الأسبوع الماضي وقعت حالتا "فشل" تعتبران الأكبر في التاريخ (تحتلان المرتبة الثانية والثالثة تاريخياً):
١. فشل بنك "سيليكون فالي" بقيمة ٢٠٩ مليار دولار.
٢. فشل بنك "سيغنيتشر" بقيمة ١١٨ مليار دولار.
يضاف إليهما بنك ثالث أعلن فشله، ولكن قيمة الفشل هنا لا تؤهله لأن يكون ضمن الأكبر تاريخياً، ألا وهو بنك "سيلفرغيت"، بقيمة ١١ مليار دولار.
* "سيلفرغيت" و"سيغنيتشر" مؤسستان مصرفيتان معروفتان بشكل واسع لدى المتداولين بالعملات المشفرة (الكريبتو)، لأنهما كانا يقبلان تحويل تلك العملات إلى دولارات وسحبها. أما بنك "سيليكون فالي"، فيعتبر الأنشط في مجال تمويل الشركات الرائدة والتقنية، وتحديداً في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا (ولهذا حمل اسم بنك سيليكون فالي).
* سبب فشل هذه البنوك تقريباً نفسه: أنها شهدت ما يسمى بـ"التهافت على المصرف" (Bank rush)، والتي تعني سحب عدد كبير من المودعين لأموالهم في نفس الوقت، مما يضع البنك في أزمة سيولة ويضطره لتصفية أصوله بخسائر من أجل تدبير سيولة كافية.
* لو لم تكونوا تعرفون، فإن البنوك التي تودعون فيها أموالكم لا تضعها في خزنة البنك وتتركها لحين الحاجة إليها، بل يستخدم البنك غالبية هذه الأموال في شراء أدوات مالية (سندات خزينة، شهادات حكومية...إلخ) ذات عائد مالي سنوي، من أجل تحقيق بعض الربح، مع ترك هامش معين من السيولة المالية (فلوس في الخزنة) لتغطية عمليات السحب.
* مع تقدم التقنيات المالية واتجاه العديد من الناس إلى عمليات الدفع الإلكتروني، قلل كثير من البنوك من هامش السيولة المالية، واتجه بشكل أكبر إلى استثمار أموال المودعين في السندات، ما زاد من خطورة أي أزمة تتعلق بتهافت المودعين على بنوكهم.
* عندما حصل هذا التهافت، اضطر البنك إلى "إسالة" السندات التي اشتراها من الخزينة الأمريكية قبل سنوات. وهنا تكمن المشكلة: قبل رفع الفدرالي الفائدة بشكل كبير ومتسارع، كانت تلك السندات معروضة بنسبة فائدة ١ ٪ (مثلاً)، إلا أنها الآن تُعرض بنسبة فائدة ٤ % (مثلاً). هذا يعني أن البنك لن يجد مشترياً لسنداته ذات نسبة الـ١ ٪ لأن الجديد المعروض في السوق أفضل، ولذلك سيضطر لبيع هذه السندات بخسارة كبيرة... المهم أن يحصل على سيولة كافية لتغطية سحوبات المودعين، وعندما لا يتحقق ذلك، يعلن البنك "فشله" في توفير السيولة.
* تطبيقاً لما سبق، اضطر بنك "سيليكون فالي" إلى بيع سندات خزينة قيمتها ٢١ مليار دولار لتغطية عمليات السحب، ما أدى إلى خسائر في صفقة البيع بقيمة ١٫٨ مليار دولار. سنداته المباعة كانت تدر عائداً سنوياً بنسبة ١٫٧٩ ٪، ولكن المعروض من الخزينة حالياً يدر٣٫٩ ٪ سنوياً.
* إذن، ما بدأ كأزمة سيولة تحول فيما بعد إلى أزمة إفلاس، لأن البنك تكبد خسائر فادحة في بيع أصوله، ما اضطر جهات الرقابة المالية الأمريكية إلى الحجر على البنك وإغلاقه.
* هيئة التأمين المالي الأمريكية (FDIC) تضمن ودائع الأفراد في البنوك إلى حد ٢٥٠ ألف دولار. هذا يعني أنه طالما كانت الأموال المودعة في حسابك لا تفوق الـ٢٥٠ ألف دولار، فإنك ستستردها بالكامل في حال فشل البنك أو إفلاسه. لكن مصرفاً مثل بنك "سيليكون فالي" يضم حسابات لعدد من كبرى شركات التقنية، والتي تمتلك ملايين في حساباتها ضرورية لعملياتها (رواتب، مصاريف...إلخ). فما العمل مع هؤلاء؟
* هنا يأتي الضغط الذي مارسه عدد من كبار رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين، الذين طالبوا الحكومة بالتدخل العاجل لوقف "أثر الدومينو" في البنوك، وضمان أموال المودعين حتى تلك التي تفوق قيمتها ٢٥٠ ألف دولار، وهو ما حصل.
* يوم الأحد أعلنت وزارة الخزينة الأمريكية أن المودعين في البنوك الفاشلة سيتمكنون من سحب "كافة أموالهم" بحلول يوم الاثنين (١٣ مارس)، وأن الخسائر المترتبة على تصفية بنكي "سيليكون فالي" و"سيغنيتشر" لن يتحملها دافعو الضرائب.
* الآن إلى فقرة الأسئلة:
١.هل ما قامت به الحكومة الأمريكية يعتبر عملية إنقاذ للبنوك شبيهة بما حصل أيام الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨؟ نعم.
٢.هل ستتدخل السلطات الأمريكية بنفس السرعة والحزم و"الكرم" لو لم يكن معظم مودعي تلك البنوك الفاشلة من مدراء الشركات وأصحاب الملايين؟ لا أظن.
٣.هل ستضيف عملية الإنقاذ هذه إلى العبء المالي للولايات المتحدة؟ بكل تأكيد، بالنظر إلى أن هذه السابقة ستعني أن أي بنك أمريكي يتعثر في حالة تهافت للمودعين سيطالب بنفس المعاملة التي عومل بها بنكا "سيليكون فالي" و"سيغنيتشر"، من ناحية تأمين كل الودائع مهما كانت قيمتها. هذا مرعب جداً بالنظر إلى أن قيمة الودائع في البنوك الأمريكية تقدر بـ٢٢ تريليون دولار، بينما لا يمتلك صندوق التأمين الحكومي على الودائع أكثر من ١٣٠ مليار دولار!
الحل؟ ستتجه السلطات إلى الخزينة الأمريكية، والتي ستطبع أموالاً جديدة لتغطية العجز... بكل سهولة وبكل صفاقة وبكل استخفاف بالاقتصاد العالمي.
(الصورة لرئيس البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، جيروم باول، للتسلية والخوف).